يتلمّس وزير الخارجيّة الإيراني محمد جواد ظريف مفكّرته. يفتحها، يُقلّب صفحاتها، يُعدّد المرّات التي وافقَت فيها فرنسا على فرض عقوبات قاسية على بلاده. يستعرض المواقف الناتئة التي وقفَها نظيره الفرنسي لوران فابيوس ضدّ البرنامج النووي الإيراني. يحتسب المرّات، يتوقّف عند التوقيت قبل انعقاد أيّ جلسة تفاوض مع المجموعة (5+1)، يُقارن ما بين هذه المواقف النارية المستفزّة، وتلك التي كانت تصدر عن مسؤولين إسرائيليّين، وأوجه الشبه بينهما.
يأتي الموفد الفرنسي جان فرنسوا جيرو بطويّة صافيّة، ومهمّة تنسيقيّة. يريد المساعدة على إنجاز الاستحقاق الرئاسي. تردّد أنّ سعيَه سيشمل السعوديّة وإيران، وأنّ فرنسا تدرس جيداً في كتاب «الأصول والأعراف»، وأدرَكت أنّ التنسيق والتشاور مع الأميركي والروسي واجبٌ وضرورة، وأنّ الاقتباس من السعودي والإيراني أمر حتميّ لينجحَ المسعى، خصوصاً أنّ الرئيس فرنسوا هولاند عندما زار البابا فرنسيس همَس في كرسيّ اعترافه، عزمَه على تدوير الزوايا، لكنّ أشهراً طويلة قد انقضَت على ذلك اللقاء، ولم تتحرّك عجلة الاستحقاق الرئاسي متراً إلى الأمام.
لم يُسَلّف الرئيس الفرنسي طهران لتردّ له الجميل، ولم يسند البرنامج النووي بمواقف إيجابيّة، حتى يردّ الرئيس حسن روحاني على التحيّة بأفضل منها.
قد يلقى جيرو في طهران حفاوةً بالغة، إلّا أنّ موسم الزعفران الإيراني لم يحِن أوانه بعد، ومعالجة تداعيات إنخفاض أسعار النفط والغاز أهمّ من الملف الرئاسي، وتعرف طهران مدى انحياز فرنسا إلى سياسة الولايات المتحدة، الهادفة الى تركيع روسيا وإيران على السواء.
آخر الكلام، كأوّلِه: ليس عند الإيرانيين لغَتان، و»كلّ من يريد مناقشتنا في الاستحقاق الرئاسي، عليه أن يقرع باب حلفائنا اللبنانيين، إنّهم الأولى بالمعروف».
في كولَسات الرئيس تمام سلام تقديرٌ وإعجاب في المدى الذي بلغته العلاقات الفرنسيّة – السعوديّة، إكتشفَ ذلك شخصيّاً خلال المحادثات المعمّقة التي عقدها مع كبار المسؤولين الفرنسييّن. أصبح التمر السعودي وجبةً أساسيّة على مائدة الترويقة في قصر الإليزيه، حبّةٌ واحدة تغني عن وجبة، فكيف إذا كان عدد الحبّات يوازي 3 مليارات دولار؟ وكيف إذا كانت الـ 3 مليارات جزءاً بسيطاً من مردودات صفقات الأسلحة التي تُقدّر بعشرات المليارات من «اليورو» المدعوم؟
أخذت الرياض المبادرة لملاقاة جيرو بجديد يمكن البناء عليه؟ لا يمكن إغفال «القطبة السحريّة» التي فكّت عقدة الحكومة السلاميّة، وهناك مساعٍ لأن تتكرّر ثانيةً لطرد الفراغ من قصر بعبدا. لا يمكن التقليل من الحركة النشطة التي تشهدها الرياض هذه الأيام، وإذا كان الزعفران الإيراني لم يحِن أوانه بعد، فإنّ «السائس» الأميركي، قادرٌ في أيّ وقت على تدجين الأحصنة الجموح!.
قد يكون في وسع طائرة جيرو الاستغناء عن الأجواء السورية للوصول الى الرياض وطهران، ولكنّ هذا لا يلغي المعادلة بأنّ دمشق هي عقدة الربط ما بين العاصمتين، وأيضاً فكّة الحلّ، والصراع حول الأحجام والأوزان والأولويات لا يزال محتدماً، والأولويات تمليها المصالح، وهي لا تزال متواجهة في العراق، وسوريا، ولبنان، والآن اليمن.
النفوذ الإيراني جزءٌ من الأكمَة الظاهرة، ما هو دونها أخطر بكثير. عبد الملك الحوثي في اليمن أخطر من أبو بكر البغدادي في العراق، لكنّ سيف الإرهاب الزاحف لا يُميّز بين الرؤوس، و»المصيبة تجمع». السعوديّة عضو بارز في التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب. الولايات المتحدة شجّعت إيران على الانضمام، ورحّبت عندما أغارت مقاتلاتها ضدّ «داعش» في شمال العراق.
لكنّ في طهران حسابات مختلفة: كلّ من يريد أن يعتمد سياسة اليد المدودة، عليه ألّا يقبض فيها على خنجر مخفيّ، والذي يريد أن يفتح صفحة جديدة عليه أن يعالج جنونَ النفط، فانخفاضُه سلاح مدمّر.
الولايات المتحدة تريد انخفاضَه «لتركيع» روسيا. السعوديّة تريد «تركيع» إيران، وبالتالي لا مكان للموفد الفرنسي وسط هذه المعمعَة، إلّا إذا كانت واشنطن تريد رسملة مهمته من الأوراق الكثيرة التي تملكها، والتي تعرف كيف توظّفها في أكثر من اتّجاه.
وحدَه الرئيس نبيه برّي الذي يملك طرفَ الخيط، والمتفائل بالحوار، يهندس طاولتَه لاستقبال المعاونَين السياسيَّين للرئيس سعد الحريري، والسيّد حسن نصرالله. حوارٌ ولو في الصورة فقط ما بين عيدَي الميلاد ورأس السنة، على أن ينطلقَ في ما بعد… وتفاءَلوا بالخير تجدوه.