هل نجحت تظاهرتا التيار الوطني الحر والحراك الشعبي في إجهاض محاولة خبيثة لفرض وصاية جديدة على البلد؟ الجواب قد يكون مبكراً جزمه أو تأكيده. غير أن مقومات السؤال تبدو حاضرة في كل خطوة تسجل على الساحة اللبنانية منذ مدة.
فالواضح أن شيئاً من التكامل صار أمراً واقعاً بين تظاهرة «التيار» يوم الجمعة الماضي وتظاهرة الحراك الشعبي غداً الأربعاء. يكفي أن التظاهرتين تطابقتا عند مطلب واحد، ألا وهو ضرورة إجراء انتخابات نيابية فوراً، على أن تكون ميثاقية ودستورية وحرة وديمقراطية. وأهمية هذه الانتخابات لا تكمن في أنها شعار، بل في قدرتها على التحول سداً في وجه حركة مقابلة، هدفها إعادة إقامة نظام وصاية خارجية على لبنان.
في الوقائع وتوصيف مجريات الأمور، وبعيداً عن تخيلات نظرية المؤامرة، ومن دون الإغراق أو الاستغراق في البارانويا، يكفي تدوين جردة بمكونات المشهد كما كان يجري، خصوصاً لجهة التكون التدريجي والمريب لهرم من العوامل والأحداث. في قاعدة الهرم كانت ثمة ثلاثة مرتكزات تنشأ تزامناً وتتكامل:
أولاً، تهويل إعلامي مدروس وممنهج تحت عنوان ضرورة انتخاب رئيس جديد للجمهورية الآن وقبل أي خطوة أخرى. ثانياً محاولة استثمار الحراك الشعبي في غير اتجاهه ومنطلقاته، وتحويله وتحويره صوب الهدف المذكور ومن أجل خدمته. ثالثاً، محاولة إحداث بعض الشغب المساعد للتهويل وللتحوير، بحيث يتبدل المزاج الشعبي العام، من المطالبة بمحاسبة شاملة وبحق الشعب في الانتخاب، إلى شيء من منطق تحويل غريزة البقاء سيدة الموقف، ودفع الناس المنتفضين أنفسهم إلى القبول تحت وطأة الدم وهول العنف والفوضى، بأي حل مرحلي موقت، يؤدي فعلياً إلى إجهاض الحراك وإنقاذ الطبقة السياسية لا غير.
فوق هذه القاعدة الثلاثية من مستلزمات استدراج الوصاية، كانت ثمة طبقة ثانية من العوامل المدبرة، تعمل وتضغط في الاتجاه نفسه. طبقة مكونة في شكل أساسي من أمرين اثنين: دعوات تصدر عن مرجعيات روحية عليا، تذهب في الاتجاه نفسه. وجاهزية على مستوى مؤسسات النظام لملاقاة الخطوة، حكومياً وبرلمانياً. وفي هذا السياق كانت لافتة مبادرة بكركي إلى جمع المسؤولين الروحيين من كل الطوائف، لاستصدار بيان معد سلفاً، لا ينص إلا على مادة وحيدة: انتخاب رئيس. وهو ما تعثر لأسباب غير بعيدة عن فهم أغراض الدعوة ومواجهتها. فاقتصر البيان على إطاره المسيحي. فيما كانت مبادرات عدة مقابلة، تعمل على إعادة تحريك الحكومة ومجلس النواب، ليكونا حاضرين حاضنين لأي مسعى يتم إنضاجه، في اتجاه تنصيب رئيس من هذا النوع.
أما رأس الهرم في مشروع استجداء الوصاية المنشودة، فكان غطاءً أممياً تؤمنه نيويورك، عبر توصية أو بيان أو حتى قرار إذا أمكن، يشكل مظلة دولية لانتداب أجنبي يفرض رئيساً مستتبعاً على لبنان. وهو ما سجل فعلياً عبر دعوة مجلس الأمن، بتحريك داخلي لبناني، كما عبر صداه الواضح في بيان لقاء أوباما ــ سلمان.
هكذا كان هرم الوصاية قد اكتمل، من دون جهد أو عنف. علماً أن البعض يناقش في حيثياته وتفاصيله، لجهة تحديد المسؤوليات عن هذا المشروع بين السياسيين اللبنانيين وبين الخارج. يقولون مثلاً إن مقولة التلاعب الإعلامي تحتاج إلى تدقيق. فجزء كبير منها كان عفوياً وطبيعياً وبدافع السبق المهني والأغراض والطبائع الشخصية لا غير. ويقولون أيضاً إن اتهام جفري فلتمان يحتاج إلى تدقيق أيضاً. فالرجل كان مشغولاً بوفاة والدته طوال الأيام الماضية. علماً أن إدارته السابقة في واشنطن ليست على علم إطلاقاً بما يحصل في بيروت. وهي تكتفي فعلياً بتلقي تقارير سفيرها دايفيد هايل، الذي بدوره بات ذهنياً في إسلام أباد، وإن كان لا يزال جسدياً في عوكر. فهو قد حصل على تثبيت الكونغرس لتعيينه سفيراً لبلاده في باكستان. وهو بدأ منذ فترة يعد لمهمته الجديدة والضخمة. يكفي ذكر أن سفارته هناك تضم أكثر من ألف موظف! وهو لم يغادر لبنان بعد، إلا لتأخر إدارته في العثور على دبلوماسي أميركي يكون ملمّاً بالأوضاع اللبنانية في هذه المرحلة الحساسة، ليتسلم منه مهمات المسؤول عن البعثة في غياب سفير أصيل. ويقولون أكثر إن بيان مجلس الأمن، هو من نتاج حركة سيغريد كاغ لا سواها، وإنها عملت على طبخه مع مسؤولين لبنانيين، لا مع دوليين أو أمميين…
أياً كانت صحة تلك التفنيدات، تظل النتيجة أن مشروع وصاية كان يتحضر. مع فارق ربما، في أن مسؤولية طبخه كانت تقع على الداخل أكثر من الخارج. وهذا ربما ما سهل الحركة المضادة له وجعل إجهاضه ممكناً. ذلك أن المواجهة لم تلبث أن فاجأت الجميع. لأنها ضربت في المكان الوحيد الذي يقدر المواطنون اللبنانيون على التأثير فيه. فقدرة الناس العاديين على تبديل مخطط التلاعب الإعلامي محدودة. كذلك قدرتهم على منع الشغب، في مقابل سلطات متورطة أو متآمرة. أيضاً مواقف المرجعيات الروحية وجاهزية المؤسسات «غير الشرعية» لتلقي المخطط، كانت كلها بعيدة عن تأثير الناس. أما مجلس الأمن، فكانت ثمة استحالة في تبديل مواقفه… هكذا، من بين عناصر هرم الوصاية كلها، لم يكن هناك غير الشارع. فذهب إليه المواطنون، في لحظة عودة ميشال عون المذهلة إليه. فنجحا في استعادته وتثبيته. هكذا سحب «حجر» الشارع من قاعدة هرم الوصاية. فتعطل أو حتى تخلخل وتضعضع.
للمرة الأولى منذ بداية الشغور الرئاسي يبدو أن هناك فرصة للشعب في أن يقرر. ويبدو أن مطلب الانتخابات النيابية قد يصير جدياً. شرط إحداث التكامل بين الساحات المنتفضة والثائرة والمقاومة. فهل يعي المعنيون ذلك ويدركون مسؤوليتهم حياله؟!