مَن مِن اللبنانيّين لم يزُر حتى اليوم قصر العدل؟ من المؤكد أنّ غالبيّة اللبنانيين اضطروا الى دخول قصور العدل المنتشرة في المحافظات اللبنانية. فـ»العدلية» كلمة تتردَّد يوميّاً على مسامع اللبناني… فسائق التاكسي، والعامل، والموظف، والطبيب، والمعلم، والمقيم والمغترب والأجنبي والنازح، والقاصي والداني زاروا جميعاً قصور العدل، لكنّ ما لفتهم ودفعنا إلى الاستقصاء والكتابة هو «الاجتياح النسائي» لها.
أما كلمة «اجتياح» فحتماً لا نعني بها أنّ النساء اجتحنَ «العدلية» بسلاحهنّ، بل بردائهنّ الأسود الذي طغى حضوره في أروقة قصور العدل، لتتعادل نسبة الحضور الانثوي في باحات قصر العدل مع الحضور الذكوري. بعضهنّ مرافعات ومدافعات بعباءات المحاماة، والبعض الآخر قاضيات يترأسن أهم الجلسات على أقواس المحاكم.
أما اللافت وإذا أمعنا النظر اليوم في هيكلية وزارة العدل، سنلاحظ أنّ جميع رؤساء الوحدات هنّ من النساء، باستثناء وزير العدل الذي تليه المديرة العامة للوزارة القاضية خيرية ميسم النويري، فرئيسة هيئة التشريع والاستشارات القاضية ماري دنيز المعوشي، ورئيسة هيئة القضايا القاضية هيلانة اسكندر ورئيسة معهد الدروس القضائية الذي هو جزء من وزارة العدل القاضية ندى دكروب. الأمر الذي يبدو تقدماً أنثوياً لافتاً للمرة الأولى في لبنان.
وضع المرأة في القضاء
تُظهر الإحصاءات أنه منذ دخول المرأة الى القضاء اللبناني في الستينات، تزايد عدد القاضيات ليصل الى النصف تقريباً من مجموع القضاة اليوم، وهو رقم تجدر مقارنته مع بلاد عربية واجنبية أخرى، مثل مصر 34%، وسوريا 12%، وفرنسا 64%، وايطاليا 48%، وتونس 42%، وليبيا 40%، والجزائر 39 %، والمغرب 25%.
أما في الاردن فلم تتخطَ النسبة الـ17%، وقد شهدت الانظمة القضائية في هذه البلدان وغيرها ازدياداً كبيراً في أعداد القاضيات منذ التسعينات تزامَنَ مع تساؤلات ومقاومات عدة ما يؤكد أنّ هذه الظاهرة عالمية.
يبلغ مجموع القضاة العدليين في لبنان اليوم 523 قاضياً، وثبت في ترتيب الجداول أنّ الأكثرية كانت للرجال ما قبل العام 2009، لتبدأ هذه النسب بالتدني تدريجاً وتتقدم عليها النسب الانثوية في السنوات التي تلت.
وتجدر الإشارة إلى أنّ النسبة الاكبر من القضاة الذين سيتقاعدون بعد سنوات قليلة هم من الرجال، بينما النسبة الكبيرة التي دخلت الى معهد القضاة في السنوات الاخيرة كانت من النساء، وإذا ما استمر الأمر على الوتيرة نفسها، فيتوقع الوصول قريباً ليست فقط الى نسب متساوية بين المرأة والرجل، بل مع إمكانية أن يتقدم الحضور الانثوي بفوارق مفاجئة في المستقبل، فيما اللافت أنّ دخول المرأة الى القضاء لا يقتصر على الجزء المدني فقط بل هي تدخل الى سلك القضايا الجزائية لتثبت من خلال التجربة انها نجحت في ذلك، ويتّضح أنّ نجاح المرأة في القضاء الجزائي كسر الحاجز الذي يقول «انّ القاضية تصلح للعمل في الملفات التجارية فقط او المدنية، امّا الملفات الجزائية فيلزمها رجال».
تشريع
تكمن المشكلة الاساسية في لبنان في صلب التشريع الذي لم يعط المرأة اللبنانية حتى اليوم حق منح جنسيتها لأولادها من أب غير لبناني، الامر الذي يعتبر خرقاً اساسياً لمبدأ المساواة، وشكل نقطة ضعف للوفد اللبناني أثناء النقاشات التي خاضها في اجتماعات جامعة الدول العربية في آذار 2015 حول حقوق الانسان، حيث خصّص له المؤتمر حيّزاً مهماً من النقاش والوقت.
قدم لبنان تقريره الأول الى لجنة حقوق الانسان لتقدمه بدورها الى جامعة الدول العربية عام 2015، على غرار تقديم ممثلي غالبية البلدان العربية هذا التقرير الى اللجنة ذاتها كل ثلاث سنوات عارضة لواقع حقوق الانسان في بلدانها ومدى تطابقها مع الميثاق العربي لحقوق الانسان، ومن ضمن النقاط المهمة في هذا الميثاق هو مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة سواء في الادارات العامة او في الحقوق وفي أماكن عدة أخرى.
فعرض لبنان لموقعه من كل هذه النقاط ومدى التزامه بها تشريعاً وتطبيقاً، وعندما طاول النقاش إعطاء المرأة حق الجنسية لأولادها، كان موقف لبنان ضعيفاً في هذا الملف، لكنه عوّض عن الأمر عبر الكشف عن ملف مهم أضاء عليه القضاة المشاركون في اعمال المؤتمر تحت عنوان «وضع المرأة في القضاء».
إجتياح أنثوي للعدلية
تكلم المشاركون عن السلطة القضائية في لبنان وعرضوا لوضع المرأة اللبنانية في القضاء اللبناني حيث تحضر بنسبة 50%، وهي نسبة فاجأت كثيرين بعدما كانت متدنية في التسعينات وبدأت بالتصاعد التدريجي بعد العام 2000، كما أن اللافت أنّ المرأة لم تعد مستبعدة عن المراكز الجزائية التي كانت
منوطة في الماضي بالرجل، فيما برزت في السلك القضائي أسماء أثبتت جدارتها في مواقعها، خصوصاً في القضاء الجزائي، وأبرزها:
• رئيسة محكمة التمييز الجزائية سهير الحركة.
• رئيسة النيابة العامة في محافظة النبطية القاضية غادة أبو كروم وهي مرشحة لأن تكون رئيسة محكمة التمييز للغرفة التجارية خلفاً القاضي المتوفي وليد القاضي (منصب درزي)
• المديرة العامة لوزارة العدل القاضية خيرية ميسم النويري.
• القاضية ماري دنيز معوشي رئيسة هيئة الاستشارات في وزارة العدل.
• رئيسة محكمة الجنايات في الجنوب رلى جدايل ورئيسة محكمة الجنايات في صيدا.
• رئيسة محكمة الجنايات السابقة في بيروت هيلانة اسكندر، وقد تم تعيينها أخيراً رئيسة لهيئة القضايا في وزرارة العدل.
• قاضية التحقيق في المحكمة العسكرية الرئيسة نجاة الاشقر وهي تتولّى في الوقت نفسه منصب مركز قاض منفرد في قضاء عاليه، وأهمّية مركزها تولّيها ملفات إرهابية حساسة ومن أبرزها ملف أحمد الأسير.
• رئيسة الهيئة الاتهامية في بيروت القاضية ندى دكروب، وهو منصب جزائي مهم وهي حالياً أيضاً رئيسة معهد الدروس القضائية.
• القاضية غادة عون رئيسة محكمة جنايات البقاع.
وهناك امثلة كثيرة لقضاة سيدات أثبتن جدارتهنّ في مختلف المواقع القضائية ومنهنّ الوزيرة السابقة اليس شبطيني التي كانت رئيسة محكمة التمييز العسكرية قبل ان تتولى وزارة المهجرين.
في معهد القضاء
أمّا في المباريات الاخيرة لدخول معهد القضاء عام 2015، فجاءت النتيجة مفاجئة بعدما فاز 33 متبارياً من أصل 423، وكان من بينهم 24 امراة فيما فاز 9 رجال فقط، الأمر الذي يُعتَبَر مؤشراً إيجابياً في المجتمعات التي تتطلع الى الحرية والمساواة والتمدن، وهذا المؤشر يصنّف تقدّم المجتمع او عدم تقدّمه خصوصاً في المجتمعات العربية.
أسباب أخرى
1 – أثبتت الإحصاءات الديموغرافية أنّ عدد النساء أصبح يفوق عدد الرجال ليس في لبنان فقط إنما على مستوى العالم، وهذا التفوق العددي لا بد من أن ينعكس أيضاً بنحو أو آخر على المستوى القضائي.
2 – الرجل بات يندفع اكثر نحو الطموح المادي. وعلى رغم الزيادة التي أقرّت للقضاة، يفضل غالبية المحامين الاعمال الحرة التي توفر لهم في هذه الظروف مردوداً مالياً أكبر، فيما يطمحون لاحقاً الى المشاركة في اعمال سياسية او اجتماعية.
3 – أثبتت النساء في امتحانات الدورات وفي مفهوم الامتحان النظري انهنّ يتقدمن على الرجال، لأنهنّ ملتزمات ويجتهدن في الدرس والحفظ عكس الرجل الذي ينجح أكثر في العمل الميداني.
4 – إنّ ظاهرة دخول النساء بقوّة إلى معهد القضاء بدأت أواخر التسعينات وأوائل عام 2000، فتكون اليوم أعمارهنّ بين الـ40 والـ45 سنة، أي ما زلنَ بعمرِ الشباب، بعكس القضاة الذين يخرجون إلى التقاعد سنوياً وهم رجال، وإذا احتسبنا هذه المعادلة المهمّة مع إضافة عدد النساء اللواتي دخلنَ حديثاً إلى السلك القضائي، يتضاعف التقدّم النسائي تلقائياً ويصبح واقعاً عددياً.
والمحاميات يتقدّمن أيضاً
يجاري التقدّم النسائي في سلك القضاء تقدّماً أنثوياً في سلك المحاماة، إذ انه في اوائل السبعينات كان عدد المحاميات لا يتجاوز الـ5 في المئة، لكنه فاق عام 2003 الـ24 في المئة ووصلت النسبة عام 2013 الى 28 في المئة. امّا في اواخر عام 2016 فقد بلغت نسبة المحاميات المتدرجات 54,5 في المئة ونسبة المحاميات المسجلة في الجدول العام 37,4 في المئة.
هذا العدد بدأ بالتزايد تدريجاً ليتساوى مع عدد الرجال تزامناً مع تصاعد مماثل لازدياد عدد القضاة النساء، فيما يشير الخبراء القانونيون الى اسباب محفزة لازدياد عدد المحاميات من أهمها انتخاب اول نقيبة للمحامين عام 2009 الاستاذة امل حداد في عهد وزير العدل آنذاك ابراهيم نجار.
أمّا عام 2012 وفي عهد وزير العدل السابق شكيب قرطباوي، فتم تعيين ثلاثة نساء قاضيات في مراكز حساسة، وهنّ: سهير الحركة رئيسة محكمة التمييز وقد انتخبها رفاقها، ميرنا بيضا رئيسة محكمة البداية في جبل لبنان، وماري دنيز المعوشي التي كانت عضواً في مجلس القضاء في الفترة نفسها مع الحركة وبيضا ولكنها عُيّنَت ولم تُنتَخَب مثل الحركة.
شهادة «قرطباوي» التي اعترف بها لـ«الجمهورية» بعد تجربته الشخصية في وزارة العدل كانت ملفتة، حيث أظهرت له «انّ النساء اكثر جدية في العمل وأقل فساداً».
في الخلاصة يبدو انّ منبر العدل وقوسه ترك سيفه هذه المرّة للمرأة في المشهد العام في لبنان، وللقرار والحكم، فيما يتساءل البعض عن هذا التفوق الانثوي وأبعاده، وماذا بعد «اجتياحه» قصور العدل؟ وهل سيترك بصمته على مستوى الذهنية العربية حيث «العقدة الذكورية» طاغية، فتخف الاصوات الممانعة تولّي المرأة مناصب الرجال؟
امّا في المقلب الآخر فيبدو انّ البعض بدأ يقلق فعلياً ويفكّر جدياً في ضرورة إدراج «كوتا» قضائية نسائية تعادل نسبة الرجل، وذلك ليس رغبة منه في إنصاف المرأة، بل خوفاً من ان يتخطّى العدد في المستقبل النصف فيتمادى تدريجاً… «الاجتياح» الأنثوي لـ«العدلية».
لهذه الأسباب… محامون ضباط يرافعون عن الأسير الثلثاء؟
نسرين يوسف
الجلسة الخامسة عشرة التي مثل فيها المتهم أحمد الأسير أمام المحكمة العسكرية في بيروت في الرابع من نيسان الجاري ستكون الأخيرة من حيث المضمون ومجريات الاستجواب والمحاكمة لاحقاً.
سيحضر الأسير في الخامس والعشرين من الجاري لكن بمحامين ضباط من الجيش. فقرار طيّ ملف الأسير ومجموعته لجهة إصدار الحكم عليهم (أيّاً كان) لم يعد يتحمّل المماطلة الممنهجة من محاميهم المدنيين.
فالرهان على صفقات تبادل أو أيّ شيء منتظر لا يعطي شهداء المؤسسة العسكرية حقهم ولا يرضي لا المواطن ولا الاستقرار الأمني. ولهذا اتّخذت المحكمة تعيين ضباط محامين من قبلها.
ورغم صعوبة موقف المحامين الضباط في المرافعة لصالح الأسير كونه متورّطاً في قتل 18 عسكرياً من زملائهم، لكنّ مصلحة القضاء والوفاء للشهداء وبسط السلطة يقتضي موقفاً جريئاً وحاسماً.
ما الخطوات التي تبعتها المحكمة العسكرية لكي تصل الى هذا القرار؟
في الرابع والعشرين من حزيران من العام 2013، جرت أحداث عبرا وفي كل الحيثيات والوقائع كانت المواجهة بين الجيش والأسير ومجموعته. في تلك المعركة استشهد جنود من الجيش ونكّل بجثث بعضهم وانتهت المواجهة بإنهاء حالة وجود الأسير وفراره.
في 15 آب 2015، تمّ القبض عليه وهو يحاول الهرب من مطار بيروت الى الخارج. بدأت محاكمته في المحكمة العسكرية، وكانت 14 جلسة فيها كل العقبات القانونية التي تحول دون اكتمال الملف، وبالتالي الوصول الى إصدار حكم عليه ومجموعته. فتارة كان هناك غياب لمحاميه وتارة طلب تأجيل.
راسلت المحكمة العسكرية لمرتين نقابة المحامين مطالِبة بتعيين محامين من قبلها للمرافعة عن الأسير لكي تأخذ الجلسات مسارها الطبيعي، وبالتالي المحاكمة، لكنّ النقابة لم ترسل أيّ مراسلة. فلم تعطِ المحكمة لا موافقةً ولا رفضاً. وبناءً على مسار الأمور كانت جلسة الرابع من نيسان الجاري حاسمةً لتحديد أفق المحاكمة.
حضر الأسير ووكيلا الدفاع عنه انطوان نعمة ومحمد صبلوح الى المحكمة وتقدّما بطلب استدعاء الشهود الذين أدلوا بإفاداتهم الى محطة «الجزيرة» في سياق عرضها وثائقي عن الأسير. واعترض ممثل النيابة العامة العسكرية القاضي هاني الحجار معتبراً أنّ موضوع الدعوى مختلف.
فكان الحسم لدى رئيس المحكمة العميد حسين عبدالله وذلك بالتوجّه الى تعيين ضباط محامين لتأخذ المحاكمة مسارها الطبيعي والسليم والجدي بناءً على المادة 59 من القانون العسكري.
المحكمة العسكرية اليوم ترفض مبدأ عدم المحاكمة وإبقاء المتهمين في مصير مجهول. فكان خياراً صعباً جداً عليها وعلى المحامين الضباط، لكنّ إصدار حكم بقاتل عسكريين وإعادة حقوق أهاليهم المعنوية أهم بكثير من صعوبة الموقف.