شاء رئيس «اللقاء الديموقراطي» النائب وليد جنبلاط أن لا تمر الذكرى الخامسة عشرة لـ»الزيارة التاريخية للبطريرك الماروني السابق نصر الله صفير في 3 آب 2001 الى الجبل» والتي أسست لما سمي لاحقاً بـ»مصالحة الجبل بين الدروز والمسيحيين»، من دون احتفالية، وقد تجاوب معه في ذلك البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي، بعد زيارة قام بها جنبلاط الى بكركي يوم 18 تموز الماضي، لدعوة الراعي الى «مباركة» تدشين كنيسة «سيد الدر» في المختارة بعد انجاز ترميمها.. وهي الكنيسة التي أقيمت على أرض يملكها آل الخازن وجرى بناؤها بموافقة من الشيخ بشير جنبلاط.. في العام 1820..
ليس من شك في ان هذه «الاحتفالية» التي حضرها حشد غير مسبوق من القوى السياسية كافة، وعلى اختلاف توزعاتهم، والمرجعيات الروحية والقيادات العسكرية – شكلت حدثاً بالغ الأهمية.. أقله في الشكل.. وفتحت الباب أمام اقفال هذا الملف المأساوي، حيث لايزال عدد كبير من مسيحيي الشوف خارج المنطقة، وقد توزعوا على ما يسمى «المنطقة الشرقية» منذ تهجيرهم ولم يرجع إلا القليل منهم، وقد سيطر القلق من تكرار هذه المآسي، والتاريخ لايزال يذكر الأحداث المأساوية التي تمثلت بحروب 1845 و1860، وسبعينات ومطلع ثمانينات القرن الماضي..
لا أحد يستطيع ان يغسل يديه من هذه الجريمة.. و»أمراء الحرب» الذين رعوا وقادوا الحروب الداخلية منتصف سبعينات وأوائل ثمانينات القرن الماضي، واستعان بعضهم بالخارج، (إسرائيلياً كان او غير إسرائيلي) لايزال يتربع على عرش موقعه ويتصرف وكأنه صاحب الارض والشعب يورثهما الى أبنائه من دون اعارة أي اهتمام للرأي العام، الذي «يقبل على مضض بالأمر الواقع..»؟! بفعل عامل «القوة» والترهيب..
وبدل ان تكون «الحروب الداخلية» او «حروب الآخرين على أرضنا» دروساً وعبراً، فقد تصرف معها «أمراء الطوائف» و»الاقطاع» على أنها فرصة لاعادة تقاسم الجبنة. الدولة طائفية بمؤسساتها واداراتها ودستورها وقوانينها وصيغتها وميثاقها.. والجغرافية طائفية بدوائرها وانتشارها وتجمعاتها واحيائها وسكنها.. والاحزاب في غالبيتها الساحقة طائفية بقيادتها و»جمهورها» وأعضائها وانتشارها وتوزعها وبرامجها وشعاراتها.. و»الانماء طائفي بقراراته ومناطقه وطرق استثماره وتوظيفه.. واللافت حتى اللحظة مسألتان جوهريتان:
– الأولى: ان القسم الأكبر من مسيحيي الجبل، لم يعودوا بعد الى بلداتهم وقراهم بسبب ان الادارات المختصة (المهجرين) لم تعطِ هؤلاء حقوقهم لاعادة الأعمار كما جرى في مناطق أخرى..
– الثانية، ان النائب جنبلاط نفسه يضع حرماً على أي استثمارات لا يكون شريكا فيها ولغير جماعته، ولو كان المشتري مسيحياً او غير مسيحي؟!
ليس من شك في أن الجهود التي بذلت أوائل العام 2001، وأدت الى زيارة البطريرك الماروني السابق نصر الله صفير الي الجبل في 3 آب 2001، لم تكن بمنأي عن عديد من التطورات الدولية والاقليمية، وقد شكلت نقطة بالغة الأهمية في أجواء تلك المرحلة، جرى البناء عليها لاحقاً اصطفافات سياسية أفاد منها عديدون.. ولم يكن خيار الذكرى الـ15 لـ»مصالحة الجبل»، بريئاً مما يجري على أرض الواقع الاقليمي والداخل اللبناني تحديداً، من أحداث يتخبط بها لبنان، والتي عبّرت عن نفسها في إخفاق «جلسات الحوار» المتتالية عن تحقيق أي انجاز يعيد لهذه «الدولة اللبنانية» أبسط ركائزها والأسس التي تقوم عليها أي دولة.. فظلت الاخفاقات السياسية هي العنوان العريض الأبرز لمرحلة هي من أخطر المراحل التي تمر بها المنطقة العربية عموماً، و»المشرق العربي» على وجه الخصوص.. والجميع ينتظر «كلمة السر» تأتي من الخارج، ليبنى على الشيء مقتضاه..؟!
الاحتفالية التي حصلت في «المختارة» أول من أمس، لافتة.. والحضور المتنوع والشامل دلالة – في الشكل – على ان أحداً لا يريد ان يجد نفسه خارج هذه المناسبة حتى لا يدفع الثمن، والذي قد يكون باهظاً.. والجميع بات يدرك خطورة الانقسامات العمودية وما قد تؤدي اليه.. لكن ذلك لم يكن كافياً للدلالة على ان ما حصل في «أزمنة السوء» لن يتكرر، وان بصور قد تبدو مختلفة بعض الشيء، وبعيداً عن التعابير التي وصفت بها «مصالحة الجبل» والقول إنها «علامة مضيئة» او «بداية مرحلة ونهاية مرحلة..» وبأن ما حصل لن يتكرر، فإنها، غير كافية للدلالة على ان لبنان بات «بألف خير» وبأن المخاطر التي تهدده، من الخارج، كما من الداخل، باتت في «خبر كان» خصوصاً وان النزعات المذهبية تتصاعد وتيرتها على ألسنة غالبية من أشاد بـ»مصالحة الجبل».
وجرياً على لباقته «المعروفية» استعار النائب جنبلاط من «كنيسة الدر» عبارة، متمنياً ان «تدر علينا الأيام المقبلة رئيساً للجمهورية لنحفظ جميعاً لبنان من الرياح العاتية» راجياً حلولاً لمشاكلنا المعقدة فتستعيد المؤسسات المعطلة دورها المنتظر وتعود عجلة الدولة الى الدوران..».
لقد كانت احتفالية «المختارة» في الشكل لافتة، و»مثالية» أما في المضمون، فإن الآتي من الأيام وحده كفيل بتبيان الحقائق، وعودة الأهالي الذين لم يتمكنوا بعد من العودة، لسبب او لآخر، دليل على ان «ليس كل ما يقوله (الأمير) يدركه الشعب، ورياح الأحداث قد تجري بما لا تشتهي السفن..»، وها هو جنبلاط نفسه يؤكد أننا «قد نختلف في مقاربة الملفات..» لكنه، ولأول مرة يؤكد «التمسك بثوابت المصالحة والوحدة الوطنية والعيش المشترك والسلم الأهلي والحوار..» لكن ما فات وليد بك ان الجميع، بلا استثناء ينتظر «الحلول» على أبواب الاصطفافات الدولية والاقليمية وما تحمله من مصالح متباينة وتطلعات بالغة الخطورة..؟! والجميع يسأل: احتفالية المختارة كيف تصرف وطنياً وأين ومتى جلسات الحوار ليست أقل من شيكات بلا رصيد وتمنيات كل يريد ما يتمناه والجالسون من حول طاولة الحوار بالكاد أحدهم يصافح الآخر او يرد له التحية والسلام..