عامل أساسي أفضى إلى تأخّر تنفيذ مشروع ”توصيل الألياف البصرية (فايبر أوبتيك) إلى جميع الأراضي اللبنانية”: تعدّد مرجعيات الإشراف على التنفيذ وتضارب الصلاحيات بينها لمنح الموافقة على الخرائط والمواصفات التقنية لشراء التجهيزات وأعمال التركيب. وما زاد التأخير تأخيراً، أن هذه التعدديّة استُعملت للمفاضلة بين المورّدين ”المقبولين“ من وزارة الاتصالات، ما أدّى عملياً إلى تأخر منح الموافقات للمتعهدين على شراء التجهيزات، واستُعملت أيضاً لتبرير توقيع عقد مع شركة استشارية بقيمة 30 مليون دولار استحوذت لاحقاً على صلاحية البتّ بالخرائط والمواصفات، واستُعملت أيضاً كأداة ضغط لخصخصة جزء من المشروع بدلاً من تنفيذه بالكامل عبر أوجيرو.
مقالات مرتبطة
إنجاز 7% من المشروع بدلاً من 35%! «الألياف الضوئية»: مسير السلحفاة للإنترنت الفائق السرعة إيلي الفرزلي
هذه باختصار هي حال مشروع ”توصيل الألياف البصرية إلى جميع الأراضي اللبنانية”. التأخير الأول كان سببه الاتفاق على آلية التنفيذ. ففي شباط 2018 أنهت أوجيرو دراسة وفضّ عروض التلزيم، لكن العقود لم توقّع مع المتعهدين إلا بعد مرور سبعة أشهر. بين هذين التاريخين، أحيل الملف إلى ديوان المحاسبة للاستحصال على موافقته المسبقة، إلا أن الديوان اشترط أن يحدّد آلية التنفيذ لمنح موافقته. وهذه الآلية ”خلقت تعدّداً في المرجعيات المشرفة على تنفيذ المشروع وتضارباً في الصلاحيات“ يقول مصدر مطلع. وهي تنصّ على أن تطلب أوجيرو الخرائط من دروس الشبكات في مديرية الإنشاء والتجهيز في وزارة الاتصالات، ثم ترسل إلى الشركات لتحديد مخطط للتنفيذ، ثم يخضع هذا المخطط لدراسة من قبل الشركة الاستشارية التي تضع ملاحظاتها عليه ويرسل إلى المديرية العامة للإنشاء والتجهيز التي تضع ملاحظاتها عليه أيضاً وتبلّغ للشركات المتعهدة عبر أوجيرو ”قبولاً أو رفضاً للمخطط… هذا يعني أن الاتفاق على المخطط كان خاضعاً لكثير من الموافقات والآراء التي تستقطب تجاذبات تقنية وقانونية وتجارية أيضاً، وكان بإمكان كل طرف أي يضع ملاحظات تؤدي إلى عرقلة”.
كلفة مدّ الفايبر إلى المنازل أغلى من كلفة مدّ الفايبر إلى الخزنات الذكية (هيثم الموسوي)
هذا بالفعل ما حصل. فقد تبيّن أن هناك عشرات المراسلات بين ستة أطراف لم تتوافق على المشروع بصيغة واحدة موحّدة. مضمون المراسلات، في غالبيتها، يتعلق بالموافقة على خرائط التنفيذ والمواصفات التقنية للكابلات وتجهيزات الكابينات. في معظم الأحيان، كان هناك خلافات في الرأي حول ”الجهة التي يكون لها الكلمة النهائية، حتى ضاعت الشركات الملتزمة، وإن كان هذا الأمر لا يعفيها من مسؤولية التأخّر في تنفيذ أشغال غير مرتبطة بعنصري الخرائط والمواصفات“ يقول المصدر.
بين هذه الوقائع، برزت مسألة تتعلق بلائحة المورّدين المقبولة. فالعقود تفرض على المتعهدين شراء التجهيزات من موردين معتمدين لدى الوزارة، على أن تبرز عرضين أو أكثر لكل صنف من الأصناف، إلا أن وزارة الاتصالات رفضت الكثير من العروض بذريعة عدم مطابقتها المواصفات، إلى أن تكرّر الأمر في كثير من الأصناف، ما أثار الكثير من الشبهات حول بعض موظفي الوزارة وعلاقاتهم مع الموردين.
كذلك برزت مسألة مخطط التنفيذ. فالمشروع يشمل توصيل الألياف الضوئية إلى المنازل بطريقتين: الأولى عبر توصيل الألياف الضوئية مباشرة إلى العلب الموجودة في المباني، ومنها إلى المشتركين. والثانية عبر تركيب خزنات ذكية (Active Cabinet) تكون بمثابة صلة الوصل بين السنترالات والعلب في المباني. الوصلة بين السنترال والخزنات تكون عبر خطوط فايبر أوبتيك، والوصلة بين الخزنات والعلب في المباني تكون عبر شبكة النحاس بما يضمن حدّاً أدنى للسرعة يبلغ 50 ميغابيت/ثانية.
إذاً، أين يتم تركيب خزنات ذكية، وأين يتم تمديد الفايبر إلى المباني مباشرة؟ هذا السؤال ليس عابراً، بل هو يجب أن يكون مبنياً على الجدوى الاقتصادية للمشروع التي كانت موضوعة على أساس تقديري وبالاستناد إلى معطيات قديمة نسبياً ويجب تحديثها. فعلى سبيل المثال، هل هناك جدوى اقتصادية في مدّ الألياف الضوئية إلى المنازل في مناطق ليس فيها طلب يبرّر كلفة المدّ، فيما يمكن منح المشتركين في هذه المناطق خدمات إنترنت سريع بحد أدنى 50 ميغابيت/ثانية، عبر خزنات ذكية تتلاءم مع القدرة الاستهلاكية لهذه المناطق؟
المسألة مرتبطة بسياسات مفقودة لدى الدولة، إذ إن حق الوصول إلى الخدمات بالنوعية والجودة نفسها يجب أن يكون متساوياً بين الجميع، لكن في ظل محدودية الموارد المالية يصبح هذا السؤال محورياً.
الاتفاق على مخطط التنفيذ يخضع لموافقة جهات مختلفة بمصالح تجارية متباينة
وبحسب المصادر، فإن الفرق بين كلفة مدّ الفايبر إلى المنازل، وكلفة مدّه إلى الخزنات الذكية وتركيب هذه الأخيرة كبير. كلفة توصيل الفايبر إلى الخزنات وتركيبها أقلّ بكثير من كلفة توصيل الفايبر إلى كل منزل بما فيها من حفر وتجهيزات إضافية قد لا تبرّرها الجدوى التجارية للمشروع. وفي هذا الإطار، برزت مسائل مماثلة في المشروع التجريبي، إذ تبيّن أن عدد طلبات الاشتراك للحصول على خدمات الإنترنت عبر الفايبر أقل بكثير من المتوقع، وهو الأمر الذي لم تتوافق عليه الأطراف المعنية بالإشراف على التلزيم. هناك جهة كانت تسعى إلى توسيع عمليات مدّ الفايبر في مقابل جهة سعت إلى توسيع عمليات تركيب الخزنات ”والأمران مرتبطان بالعنصر الأول للعرقلة، أي لائحة الموردين المقبولين وما يثار حول هذا الأمر من شكوك وفساد”، تقول المصادر.
لاحقاً، تبيّن أن وزير الاتصالات تلقى مراسلات من شركات مقدمي خدمات الإنترنت (الشركات الخاصة) تستغلّ هذا التأخير لتطلب السماح لها بمدّ شبكات ”فايبر أوبتيك“ على حسابها. وقد حاول وزير الاتصالات في مرحلة من المراحل فرض هذا النوع من الخصخصة لجزء من المشروع. وبحسب مصادر تجارية، ”لو واصل الوزير ضغوطه لمنح الشركات موافقة على طلبها لأصبح بإمكان الشركات امتلاك شبكة فايبر أوبتيك بشكل مخالف للمرسوم 3960 الذي ينصّ على أنه يمكن للشركات مدّ الشبكات حيث يتعذّر على أوجيرو. لكن الأمر لم يكن متعذراً على أوجيرو، بل كان يشوبه تأخير قد يكون مقصوداً في كثير من الأحيان. والهدف من الطلبات أن الشركات تسعى إلى السيطرة على حصص سوقية مسبقاً قبل وصول أوجيرو. وما يعزّز هذا الاستنتاج أن هناك شركات قدّمت طلبات للبلديات بمدّ فايبر أوبتيك في الهواء (على أعمدة) للوصول إلى المشتركين الذين يمثّلون جدوى اقتصادية مربحة، وخصوصاً أن بعض الشركات تتحضر لتقديم سلّة من الخدمات، مثل الداتا والإنترنت والفيديو. استحواذ هذه الشركات على الزبائن قبل انتهاء أوجيرو من مدّ شبكتها يعني فوزها بحصص سوقية كبيرة، فيما أوجيرو مكبّلة أصلاً بأسعارها التي تحدّد بمراسيم في مجلس الوزراء بناءً على اقتراح وزير الاتصالات، وهي في كل الأحوال أغلى من أسعار الشركات بنحو 30%».