تفاجأ العالم قبل خمسة عشر عاماً بقوات الاحتلال الإسرائيلي وهي تنسحب من جنوب لبنان، من دون اتفاق سياسي يعطي مكاسب لإسرائيل كما جرت العادة في انسحاباتها القليلة من المناطق العربية التي احتلتها. وتوج الانسحاب الإسرائيلي أعمال مقاومة بطولية قامت بها المقاومة اللبنانية على مدار عقود، بداية من جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية «جمول» وحتى المقاومة الإسلامية التي قادها «حزب الله» من ساعتها وحتى الآن. أعاد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان العام 2000 الاعتبار لفعل المقاومة برغم اختلال التكافؤ العسكري، في مقابل مفاوضات السلام المتأسسة على موازين القوى المعلومة بين الدول العربية وإسرائيل، والتي لم تأت بالنتيجة بتسويات مقبولة شعبياً. اجتاحت إسرائيل جنوب لبنان في العام 1978 وأقامت «حزاماً أمنياً» استخدمت لتبرير قيامه الرائد سعد حداد أولاً ثم أنطوان لحد تالياً، وتضافرت تلك المنطقة الأمنية مع منطقة دولية عازلة بواسطة قوات متعددة الجنسية استقدمت إلى لبنان بعد قرار مجلس الأمن الدولي رقم 425، لتنتهك السيادة اللبنانية على نحو غير مسبوق. وبلغ الفعل العسكري الإسرائيلي ضد لبنان ذروته في صيف العام 1982 عندما غزت إسرائيل لبنان، واحتلت أكثر من نصف مساحته بما في ذلك الجنوب والعاصمة بيروت. ساعتها أفلحت إسرائيل ـ وقتياً فقط ـ في تظهير تفوقها العسكري الواضح إلى مكسب سياسي، مستغلة التناقضات الداخلية اللبنانية، فأبرمت اتفاق 17 أيار 1983 مع الحكومة اللبنانية في عهد أمين الجميل. وبمقتضى الاتفاق الأخير، فقد انسحبت إسرائيل من بعض أجزاء الجنوب اللبناني في عامي 1983 و1985، ولكنها احتفظت بمنطقة أسمتها «الحزام الامني» في جنوب لبنان واستمر ذلك الوضع حتى انسحابها المذكور. سياسياً، أفلحت فصائل المقاومة اللبنانية والنظام السوري في إفشال اتفاق أيار 1983 بعد فترة وجيزة نسبياً، لكنهما لم تستطيعا إفشاله عسكرياً على الأرض إلا مع الانسحاب الإسرائيلي العام 2000.
حسابات إيهود باراك
تشكلت حسابات حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي وقتذاك إيهود باراك الخاصة بانسحاب قواته من لبنان عبر تفاعل مجموعة من العوامل الداخلية الإسرائيلية واللبنانية والتوازنات الإقليمية سورياً وإيرانياً، والانفراجة المحتملة بين واشنطن وطهران، وأولويات حكومة باراك الإقليمية. فمع ارتفاع كلفة الاحتلال بفعل عمليات المقاومة، بدأت إسرائيل تشعر على نحو متزايد أن احتلالها للجنوب اللبناني قد تحول إلى مصيدة، بدلاً من أن يوفر لها عمقاً أمنياً الأمر الذي دفع قطاع كبير من الإسرائيليين إلى المطالبة بإنهاء احتلال الجنوب اللبناني، وهو ما استخدمه بالفعل إيهود باراك في حملته الانتخابية السابقة على الانسحاب والناجحة في مواجهة «الليكود» وزعيمه نتنياهو. وكانت عمليات المقاومة اللبنانية ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي قد تزايدت وارتفعت وتيرتها.
من زاوية أخرى، وبدلاً من أن يوفر ذلك الاحتلال الأمن لإسرائيل كما اعتقدت، فقد هيّأ الفرصة لإيران وحليفها «حزب الله» كي تحرجان إسرائيل في المنطقة وتكبدانها خسائر سياسية وعسكرية؛ فاختلت حسابات الجدوى الإسرائيلية إلى حد كبير. باختصار، لم تحتج إيران إلى صواريخ باليستية متطورة لضرب إسرائيل، بسبب وجود «حزب الله» الفعّال والمؤثر في جنوب لبنان. ومن الناحية الاستراتيجية، كان المعنى الأهم لتعاظم عمليات المقاومة التي قادها «حزب الله» في جنوب لبنان، أن خرائط الشرق الأوسط أصبحت تعرف حدوداً سياسية إيرانية – إسرائيلية لأول مرة في التاريخ. هكذا وفر الغزو الاسرائيلي للبنان الفرصة أمام إيران لكي تؤثر في الصراع الاسرائيلي – الفلسطيني بشكل مباشر، من خلال تأثيرها الكبير في لبنان عبر عمليات المقاومة. بكلمات أخرى، مكّنت علاقات إيران مع «حزب الله» طهران من أن تلعب دور «المفسد» ببراعة في العمليات التسووية الجارية وقتذاك في المنطقة لمصلحة إسرائيل. كان إيهود باراك مهتماً باقتناص الفرصة السانحة بالتوصل الى تسوية مع الفلسطينيين في ظل الإطار العربي والإقليمي والدولي السائد وقتها، والذي رآه مناسباً جداً لمصالح إسرائيل وبالتالي لقدرتها على الخروج بمكاسب سياسية كبرى عبر التسوية مع الفلسطينيين، ولاحقاً التطبيع مع الدول العربية تحت ستار التسوية الفلسطينية – الإسرائيلية. أثرت هذه الحقيقة إلى حد كبير على حسابات حكومة إيهود باراك، فلم تستطع تجاهلها مع استعداداتها وقتذاك لإطلاق عملية التسوية مع الفلسطينيين، خوفاً من أن تخربها إيران كما فعلت في أعقاب اتفاق «أوسلو» من خلال تحالفاتها الفلسطينية: «الجهاد الإسلامي» و «حماس». كما أن الانسحاب من لبنان عني ضمنياً وعملياً كسر ما سمي وقتها «التلازم بين المسارين السوري واللبناني»، الذي أعطى لسوريا ورقة تفاوضية قوية في مواجهة إسرائيل، وبالتالي استهدف باراك أيضاً بانسحابه من جنوب لبنان فتح المجال لحكومته كي تتفاوض مع سوريا من دون إمساك الأخيرة للورقة اللبنانية. كما أن إيهود باراك اعتقد مثل غالبية الاستراتيجيين الإسرائيليين أن انسحاب قوات الاحتلال من جنوب لبنان سيفعل التناقضات اللبنانية الداخلية بصورة أكثر فعالية، ما يعود على إسرائيل بفوائد ممتازة قليلة التكلفة.
وزاد في الطنبور نغمة أن تزامنت رغبات إيهود باراك تلك مع استئثار الإصلاحيين في إيران بغالبية مقاعد البرلمان في أعقاب الانتخابات البرلمانية في شباط 2000، الأمر الذي مهد الأرضية لهجوم ديبلوماسي إيراني قاده محمد خاتمي مستهدفاً الإدارة الأميركية وقتذاك برئاسة بيل كلينتون. ويعود السبب في القلق الصهيوني إلى القلق من تطبيع محتمل للعلاقات بين واشنطن وطهران، وما يعنيه ذلك من تقلص هامش المناورة الإسرائيلي في المنطقة بمقابل اتساع نظيره الإيراني (ما أشبه الليلة بالبارحة). وبالتالي دار في حسابات باراك أن الانسحاب من جنوب لبنان سيلمّع صورته أيضاً لدى الإدارة الأميركية، ما يمكنه أكثر من عرقلة التقارب الأميركي – الإيراني. لكل هذه الأسباب، اعتقد الإسرائيليون ورئيس حكومتهم وقتذاك إيهود باراك أن الانسحاب من جنوب لبنان، سيقدم مزايا غير منظورة لإسرائيل، ما يمكنهم من المضي أكثر في استراتيجية التسوية، التي عنت ضمناً الهيمنة الإقليمية الصهيونية تحت غطاء التسوية مع الفلسطينيين.
الدروس والنتائج
مع إعلان «حزب الله» انتصاره المستحق على قوات الاحتلال الإسرائيلي، فقد ظهر واضحاً أن الحزب ومقاومته قد دمرا صورة إسرائيل في المنطقة باعتبارها القوة العظمى التي لا تقهر. وفي قراءة بارعة لحسابات باراك بخصوص الانسحاب، فقد حرص الحزب على التذكير بعدم انسحاب إسرائيل من مزارع شبعا اللبنانية، الأمر الذي منع إسرائيل دولياً وقانونياً من تسويق خطتها القاضية بأن حالة الحرب بينها وبين لبنان قد انتهت. وبالمحصلة، وبغض النظر عن القبول الدولي بفكرة تبعية مزارع شبعا إلى لبنان، فقد عطل «حزب الله» وسوريا وإيران غالبية الفوائد الاستراتيجية التي لمعت في خاطر باراك عند اتخاذ قراره بالانسحاب. ولأن الخط الاخضر هو خط الهدنة العام 1949، في حين أن الخط الازرق هو الخط الذي رسمته الامم المتحدة للتأكد من التزام اسرائيل بتنفيذ القرار الاممي رقم 425 للانسحاب من جنوب لبنان، فقد تمثل الفارق بين الخطين في مزارع شبعا، التي احتفظت بها إسرائيل بعد انسحابها من جنوب لبنان العام 2000، باعتبارها «أراض سورية محتلة». وإذ أعلنت سوريا أن مزارع شبعا هي أراض لبنانية، بغية إفساح المجال أمام «حزب الله» للبناء على مكسب الانسحاب الإسرائيلي، وإضفاء شرعية القانون الدولي على عملياته اللاحقة ضد إسرائيل. هكذا يمكن القول أن العلاقة التحالفية بين سوريا و «حزب الله» قد استمرت وتكرست بعد الانسحاب الإسرائيلي، ولكن مع تبدل الأوزان ضمن هذا التحالف لمصلحة الحزب.
أصبح «حزب الله» بعد الانسحاب الإسرائيلي من لبنان رقماً في المعادلات الإقليمية على هدي من موازين القوى البازغة بين لبنان وإسرائيل، وهي نتيجة لم تدر في خلد إيهود باراك بالطبع عند اتخاذ قراره بالانسحاب. بالمقابل فقد راهنت إسرائيل دوماً على تفعيل التناقضات الداخلية بين الأفرقاء اللبنانيين لتحقيق مكاسب سياسية عجزت آلتها العسكرية عن فرضها على الأرض. فهل يحقق الانقسام اللبناني رهانات باراك الفاشلة بأثر رجعي؟