صدّعت رأس الكثير من العرب فكرة الممانعة، وأُدخلت في مخيلات الكثيرين على أنها حقيقة، وذكرتنا بالمرحومة جبهة الرفض، إلا أن الأخيرة لم تستنزف من الدم العربي ولم تُحل من المحرمات ما استنزفته وأحلته «جبهة الممانعة»، فقد صرفت حتى الآن عشرات الآلاف من القتلى، وملايين المشردين، وما زالت تفعل!
للبعض كانت تلك الأخيرة (جبهة الممانعة) تحمل ورقة توت وعورتها مستترة، أما البعض الآخر، الذي يستخدم عقله، فقد عرف مبكرًا أن ورقة التوت تلك لم تكن موجودة أصلاً، وقيل لنا تكرارًا إن «الممانعة» هي الوحيدة في العصر الحديث التي وقفت ضد إسرائيل، بل وانتصرت عليها، وقبل السذج ذلك القول دون تفكير. كما استفادت الجمهورية الإسلامية إعلاميا من «دعمها لجبهة الممانعة – حزب الله والنظام السوري» حتى صارت بالكلام هي «هانوي» العرب، إلى درجة تصديق البعض أن ذلك الدعم لوجه الله، ثم اكتشف الجميع أنها فقط تستخدمه لتحقيق أغراض التوسع الإيراني لا غير. اليوم بعد الأحداث الأخيرة على الأرض سقطت تلك الورقة، ولم يعد أحد لديه بعض من عقل يصدق خرافة «جبهة الممانعة». إنها سراب.. أراد البعض أن يرتكب الموبقات خلف الإيهام بأنها ماء زلال، لكن الأحداث على الأرض بينت حدثًا بعد آخر أن كل ذلك كان أضغاث أحلام.
من أجل التفصيل فإن الاتفاق الذي سُمي «هدنة طويلة المدى» على الجبهة في مناطق الزبداني وما جاورها يظهر حقيقة ما يجري على الأرض.. وهي شقان؛ الحقيقة الأولى أن حزب الله بكل ما ضخ من قوات وما قام عليه من دعاية، تبين أنه غير قادر على الحسم. في الحروب هناك انتصارات وهزائم، وعلى عكس ما تقوله ماكينته الإعلامية فإنه لم يحقق نصرًا. والحقيقة الثانية أن من حضّر للمفاوضات وسعى لها بدأب هم الإيرانيون!! ويعني ذلك أنهم المفاوضون نيابة عن نظام الأسد وحزب الله معا! فقد كُفت يد الممانعة الظاهرية، وظهرت اليد الحقيقية المتحكمة في الساحة السورية. وعلى مقلب آخر فإن وجود القوات الروسية في سوريا، بالكثافة التي أعلن عنها، جعل من بنيامين نتنياهو يعجل بالسفر إلى موسكو من أجل الحصول على «ضمانات»!! وقد قدمت له موسكو تلك الضمانات، لأن معظم الجسم السياسي النشط في إسرائيل له انتماء وطني وعلاقة وثيقة مع روسيا (الاتحاد السوفياتي السابق)، فالتأثيرات المتبادلة والمصالح المشتركة بين إسرائيل وروسيا هي حتى أعمق من تحالف سياسي أو مصالح اقتصادية مع سوريا.. هي تشبيك لا يستطيع أحد النفاذ من حلقاته، أو التخفيف من صلابته.
من هنا فإن ما رشح من مواصفات لضمانات قدمتها روسيا لإسرائيل، وخاضت فيها بعض وسائل الإعلام العالمية، هي في خطوطها العريضة «ضمان تام ولازم ألا يقترب أحد من الحدود الإسرائيلية من جانبها اللبناني أو السوري على وجه التحديد». طبعا النظام السوري مجبر على القبول بتلك الضمانات، لأنه لم يكن يفكر أو حتى يعمل على «ممانعة» حقيقية تجاه إسرائيل في السابق غير الكلام المرسل. أما اليوم فقد غدا مشلول القدرة، حتى عن إبداء الرأي في الموضوع برمته، لأن المفاوض الرئيسي هو روسيا وهي الحامية لبقايا النظام المهلهل من الداخل. أما موقع حزب الله فقد قدم لإسرائيل الضمان الأكثر أهمية من خلال موسكو، وهو «ألا يتسرب أي سلاح ذي بال من الأرض السورية إلى حزب الله!!» يكون ضارًا في المستقبل بإسرائيل. وكان الشرط الإسرائيلي في مفاوضات موسكو أنها تحتفظ بحرية الرد العسكري (أي ضرب تلك الأسلحة في حال حراكها باتجاه الحدود اللبنانية).
زبدة القول أن موضوع «الممانعة» لم يعد ذا صفة إلا للمخدوعين، أو من يحب أن يخدع نفسه. للعقلاء لم يعد هناك مبرر ولا حتى ضئيل للحديث عن ممانعة، سوف يظل الحديث عنها في الخطب الرنانة والمقابلات المتلفزة، إلا أنها لن تخرج عن الكلام. سوف تصبح خصوصًا الجبهة اللبنانية الإسرائيلية في سلام مقيم. معمل «الانتصارات الإلهية» أقفل نهائيا. المعمل الثاني الذي أقفل هو تحكم «حكومة أقليات في الشعب السوري».
لقد كان للمنظومة الفاشية التي صرف حافظ الأسد وقتًا طويلاً ولسنين كثيرة لبنائها بعض المعارضين، على الأقل في بدايتها، بعضهم همش وبعضهم صفي، أما بشار الأسد فقد طور أشكالاً من السيطرة أكثر قوة وعدوانية عن الأشكال السابقة التي أسس لها والده، حتى أصبحت لها «حياة خاصة بها». فحديث التعذيب في سجون بشار التي ظهر بعضها الآن على السطح في وسائل الإعلام، خاصة الغربية، يتضاءل فيها الوصف العربي «يشيب لها الولدان». تلك الطرق الجهنمية تفقد الإنسان إنسانيته، وبالتالي عقله. من نجا من تلك الماكينة البشارية أصبح عضوًا في «داعش»، فقد خلق نظام بشار الحضن الدافئ لكل المآسي التي تمت حتى الآن من خلال قوى الرعب.
يرى المتابعون أن بشار الأسد، على خلاف غيره من الحكام الذين واجهوا «الربيع العربي»، اتخذ مسارًا قمعيًا بالغ القسوة والصلف، تجاه معارضيه، وهو أمر كان متوقعًا، لأن حكم الأقلية في كل الأحوال يواجه المعارضة، أي معارضة، بذلك الصلف، لأنه يحمل نظرية «يا قاتل يا مقتول». حكومة الأقليات عادة ما تعيش في قفص حديدي لا تخرج منه إلا شظايا، ومن هنا فإن الحديث المتداول عن «تأهيل بشار» هو حديث يسعد به أصحابه، لأنه فكر تمنيات لا فكر واقع، وهو إهانة لكل الدم السوري الذي استباح.
تاريخ الأنظمة الاستبدادية في القرنين الماضيين على الأقل تاريخ يأخذ مسارًا واحدًا لا غير، إن مآله إلى الزوال الحتمي. فقد يختنق النظام بالأدوات القمعية نفسها التي يستخدمها، حيث إن تلك الأدوات لا تلبث أن تستخدم ضده، وهي حقيقة في حالة سوريا، فقد تسبب في ظهور الإرهاب، وهذا ما يسبب الآن الحديث عن سقوطه، ذلك حكم التاريخ الذي لا مناص منه، وهو واقع الساحة السورية اليوم.
آخر الكلام:
يقول المؤرخون إن الحرب العالمية الثانية قد ربحها الحلفاء من خلال امتزاج الدم الروسي بالمال الأميركي.. هل تعاد المعادلة في الساحة السورية؟ من يدري؟