IMLebanon

أوراق التين تتساقط: من فلسطين إلى الخلافة؟

لعقود خلت تَشارك العرب، حكاماً ومحكومين، في قضايا جامعة وفي تطلعات باتجاه الوحدة والثورة والتحرير. وكان للتوجهات القومية والايديولوجية مكانة خاصة في فكر النخب السياسية وحركتها، داخل الأحزاب وخارجها. فالقومي العربي، ناصرياً كان أم بعثياً، سعى إلى أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة. والقومي السوري كان تواقاً إلى سوريا الكبرى. محازبو اليسار بتلاوينه المختلفة راهنوا على الصراع الطبقي أداة للتغيير، فتنال الشعوب حقوقها المهدورة. الجيوش استأثرت بالسلطة بهدف بناء الدولة القوية ومحاربة الإقطاع والفساد. وأهل الثروة أصبحوا أكثر ثراء نيابة عن غيرهم ودخلوا نادي النافذين المعولم قبل العولمة.

في حرب السويس واجه عبد الناصر العدوان الثلاثي بمفرده، بلا ضمانة من أحد. الدفاع العربي المشترك في مطلع الخمسينيات أقلق اسرائيل وكذلك مؤتمر القمة العربية في العام 1964. وبعد ستة أعوام على هزيمة 1967، كادت حرب 1973 أن تُلحق الهزيمة بإسرائيل لولا الدعم الاميركي. آخر المواجهات التي زعزعت أمن اسرائيل كان تصدي «حزب الله» لعدوان 2006 بإمكانات محدودة لكن بإرادة صلبة. تميز لبنان عن سواه من دول المنطقة على المستويين النظري والميداني، فكان مسرح الاختبار المفتوح لانتظارات جيل الستينيات والسبعينيات وطموحاته وساحة لحروب الإخوة والأشقاء والأعداء. ظن المتحاربون، كل من جهته، أن الانتصار حتمي، لا سيما من راهن على أن الثورة ضد نظام لبنان «الرجعي» ستنتج ثورات تطيح الأنظمة الحاكمة تمهيدا للتحرير في فلسطين.

لم تكن الحالة العربية وحيدة من منظار مقارن، باستثناء النزاع العربي ـ الاسرائيلي الذي لا شبيه له بين النزاعات الاقليمية المعاصرة. الانقلابات العسكرية وحركات التغيير الثوري لدحر «الرأسمالية المتوحشة» شهدها العالم الثالث في دول أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا. إلا أن هذه الدول خرجت من دوامة الثورة والراديكالية المطلقة لتنطلق باتجاهات أكثر واقعية وجدوى، وآخر نماذجها الصين الشيوعية التي انتقلت من «الثورة الثقافية» إلى الرأسمالية، وهي اليوم تنافس أربابها في عقر دارهم.

في زمن مضى، برزت قضايا ومطالب وأحلام، غالبا ما سترت العيوب والانقسامات والانتماءات، المنظور منها والمستتر. فإذا اختلف عبد الناصر مع البعث وانكسرت دولة الوحدة، كان ذلك نتيجة أخطاء مبررة أو مدبرة، إلا أن الهدف واحد. وإذا انقسم البعث على أساس قُطري، فباسم القضية المشتركة ولأنه قادر على أن يطير بجناح واحد لا بجناحين. واذا اصطدمت الأنظمة الحاكمة في ما بينها، فهذا لا يعني أنها تخلت عن المصير المشترك. واذا قمعت الأنظمة الحاكمة الحريات وزجت معارضيها في السجون، فلأن الثورة مستمرة لإحداث التغيير الجذري. وإذا اندلعت حرب اليمن بين مصر والسعودية فلأنها امتداد للحرب الباردة.

واذا تحول لبنان ساحة لنزاعات المنطقة فلأن الدولة ضعيفة والمجتمع منقسم. واذا احتل صدام حسين الكويت، فلتصحيح ارتكابات الاستعمار ومحاربة اسرائيل. واذا اندلعت الحرب بين العراق وايران الإسلامية فلأن التصدي ضروري لوضع حد «لصادرات» ايران الثورية. واللائحة تطول.

بكلام آخر، على رغم الانقسامات والأزمات والعثرات في سياسات أنظمة الحكم العربية، فإنها كانت مغلّفة بقضايا مصيرية وهموم مشتركة وتطلعات وآمال، بمعزل عن مدى صدق نيات أصحابها وغاياتهم.

أما الآن، وبعدما دخل العالم العربي نفق الصراع الديني والمذهبي والعصبي (من العصبية) على أنواعه والمعبَّر عنه بالأقوال والأفعال وصرف المال، تساقطت أوراق التين دفعة واحدة وانكشف المستور. فبينما اسرائيل في أقصى جبروتها وتحديها حتى لرئيس الدولة العظمى التي تحميها، كلمة واحدة من رئيس الدولة نفسها كافية لتهتز بعض الأنظمة ويقلق حكامها. في الخليج، الهمّ الطاغي محوره إمكانية تطبيع علاقات ايران مع العالم. وفي اليمن حرب مشتعلة لا أفق لها ولا حلول. وفي ليبيا انهيار الدولة والمجتمع وتصدير للإرهاب بدل النفط. وفي العراق وسوريا قتل ودمار باسم الدين والدنيا. ويطول النفق ليصل الى مصر حيث المواجهة مفتوحة بين الدولة والإرهاب المدعوم إقليميا، والى تركيا العلمانية التي جنحت سياستها في المنطقة باتجاه التشدد الديني بقيادة رئيسها «السلطان». أما النزاع بين العرب واسرائيل فساحته اليوم فلسطين وأدواته ضحايا الاحتلال أنفسهم، المنقسمون بين «سلطة» الضفة و «حماس» غزة، وبين الطرفين معا واسرائيل. إنها نكبة سياسية لا تقل فداحة وخسارة عن نكبة 1948.

فمن الدولة الوطنية أو القومية إلى دولة الخلافة الإسلامية، ومن «الهلال الخصيب» الى «الهلال الشيعي» أو «القمر السني»، ومن الربيع العربي الى الخريف الإسلامي، هكذا حلّ السيف مكان العروبة، والدين مكان القومية، والمذاهب مكان الايديولوجيا، والإرادة الإلهية المخطوفة مكان البشر. الجامعة العربية، حارسة النظام الاقليمي العربي، لم يبق من دورها العربي سوى اسم أمينها العام (العربي). فمن ساطع الحصري وعبد الناصر الى البغدادي والجولاني، ومن القضية الفلسطينية الى الخلافة الإسلامية، يعود العالم العربي الى صراعات ما قبل الدولة والامبراطوريات، الى لعبة نفوذ فاقعة وقاتلة، فلا قضية تجمع ولا حدود لعنف مجنون يدّعي العصمة الإلهية. فالسقوط جاء سريعاً ومدوّياً وخارج سياق التحولات الكبرى التي شهدها العالم في العقود الأخيرة. إنها حالة تراجع وجودية لا يستحقها الغالب أو المغلوب، ولا المغلوب على أمرهم.