من يريد التخلص من الذباب لا يعمل على نشر المستنقعات وضخّ المزيد من المياه الآسنة فيها. وهذا ما تفعله بالضبط السياسة الأميركية في المنطقة، اما نتيجة ارتجاج في المخ على مستوى القيادة ورأس الدولة، واما نتيجة استمرار الاستراتيجية الضمنية الخبيثة الرامية الى ضرب الصديق والحليف والعدو معا، لاضعاف الجميع واخضاعهم بالنتيجة للهيمنة الأميركية وحليفها الوحيد اسرائيل! والذباب المعلن في هذه الآونة في نظر أميركا هو الارهاب التكفيري الذي يحمل اليوم هوية داعش وأخواتها من تفرعات تنظيم القاعدة الأم! ومن المفارقات التي لم تعد خافية على أحد ان الأبوة الشرعية لكل تنظيمات جنون العنف الوحشي، انما تعود أولا وأخيرا، الى أميركا نفسها!
حالة الارتجاج في المخ على مستوى رأس الدولة، لا تقتصر فقط على الولايات المتحدة الأميركية وحدها. ما عمّم الفوضى والعنف والدمار أيضا، اصابة العديد من قيادات المنطقة بهذا النوع من الارتجاج! وأول معالم رحلة التيه للعديد من الأنظمة في المنطقة، هو اضاعة البوصلة، وفقدان أبسط قواعد المنطق، والاستسلام لسياسة سيطرة الغرائز. وقاد كل ذلك الى التخبط في المفاهيم والاتجاهات، بحيث تحوّل من كان يفترض فيه أن يكون شقيقا وحليفا الى عدو، وبحيث أصبح ما كان هو العدو الوجودي الصريح، الى مشروع صديق وحليف!
على الرغم مما يحمله لبنان من أثقال قاصمة موروثة وطارئة، فان حالة من السياسة العقلانية والواقعية المسيطرة عليه اليوم، هي التي جنّبته وتجنّبه حتى الآن السقوط في مهاوي الفوضى والانقسام. وهذا الواقع يتطلب المزيد من الشيء نفسه، بحيث يتخفف الحكم والقيادات السياسية من الخلافات والتباينات في وجهات النظر والمصالح الفئوية، والتركيز على عبور هذه المرحلة المفصلية من تاريخ المنطقة بأقل الأضرار الممكنة، أو – مع شيء من الطموح – بتحقيق بعض المكاسب التي تضع أقلّه قواعد تأسيس الدولة العصرية، والقيام بالخطوة الأولى، في رحلة الألف ميل!