مُهينة الحال التي انتهت إليها الإدارة الأميركية. الإهانة في حراكها، أو بالأحرى في يقظتها المتأخّرة، لمواجهة «داعش» في العراق وسوريا. والأسوأ هو إعلان الرئيس باراك أوباما لاحقاً أنّ بلاده لم تقدّر جيّداً خطر التنظيم الإسلامي الإرهابي.
التغيير الجذري لدى الإدارة الأميركية التي تُركّز اهتمامها على مخالفة «الحقبة البوشية»، جاء على شكل «حرب من السماء»، مع «تقدير» باستمرارها سنوات ثلاث متتالية. إذاً وكأنّ الأميركيّين عادوا إلى نقطة الصفر: إلى ذلك اليوم الذي أُحرِقت فيه جثث جنود أميركيين في الفلوجة قبل أعوام.
الحملة الأميركية جاءت مسيئة للصورة التي دأبت الولايات المتحدة الاميركية تُظّهرُها عن نفسها وعن سياستها بوصفِها حصيلة قِيم متصلة بالإنسان وحقوقه. فأوباما أطفَأ هدير محرّكات طائراته الحربية صبيحة الإبادة الكيماوية في الغوطة خلال صيف 2013، والتي نظّمها النظام السوري ضد شعبه وأفضَت إلى مقتل أكثر من 1500 مدني، غالبيتهم من الأطفال.
لقد خذلَ أوباما السوريّين، كما فعلَ جورج بوش الأب مع العراقيين. الأوّل لم يستَجب لنداءات واستغاثات السوريين للتدخّل ضد الأسد وإسقاطه لوقف تساقط صواريخ «سكود» والبراميل المفخّخة على أحياء الآمنين، بينما لم يدَع مناسبة إلّا وحفّزهم على المضيّ بثورتهم، مؤكّداً وقوفَ بلاده إلى جانبهم.
أمّا الثاني فقد حرَّض الشيعة في جنوب العراق، والأكراد في الشمال على الثورة، بعدما أوجَد مناطقَ محظورة على طائرات «أبابيل» صدام حسين، لكنّه عاد ونفَض يديه تاركاً إياهم ليواجهوا مصيرَهم الأسود.
وفي الحالين كانت «التسوية» التي تصوغها الاستخبارات وتعقدها الإدارة هي «المفتاح السحري» الذي يترك الشعوب في مواجهة ديكتاتوريات عاتية، مقابل تأمين المصالح الأميركية.
المتقدّم من سياق، لا يتوخّى بحال من الأحوال إثباتَ ما يفترضه أصحاب «العقل التآمري» الذي يستبطن رفضاً مطلقاً لمحاكاة الولايات المتحدة بوصفِها «تُورّطنا ثم تتخلى عنّا»، بل على العكس تماماً، إذ إنّها دعوة لفهم سياسة «النأي بالنفس» الأميركية إزاء العرب ومشاكلهم في حقول الأمن والاقتصاد والتربية والثقافة، واستخلاص التعارض بين السياسة والأخلاق.
الثابت الآن، أنّ اندفاعة واشنطن لقيادة التحالف الدولي ضد الفكر التكفيري، جاءت إثر انهيار ما بنَته في العراق، خصوصاً بعد السقوط المريع للموصل والانهيار السريع للجيش العراقي أمام «داعش» التي فرَضت حضورَها وثقافتها الدينية ـ العنفية على مناطق متعددة ومتنوّعة دينياً وإثنياً، فضلاً عن تهجير مئات آلاف المسيحيين والأيزيديين والتركمان الشيعة.
التغيير الميداني المفاجئ والعاجل، أعاد ترتيبَ سُلّم الأولويات الأميركي بالنسبة إلى المنطقة برُمّتها، ومن ضمنها إيران واليمن. لكنّ هذا المستجد لم يكن إلهاماً بمقدار ما هو استجابة لمجموعات ضغطٍ طالما حذَّرت من تنامي المجموعات التكفيرية وخطَرها على أميركا أولاً، وهي تصوغ استنتاجاتها السياسية وفقاً لعمل ميدانيّ قوامُه المسح السياسي والاقتصادي والثقافي لميدان المعركة. وأبرزُ تلك المجموعات «منظمة مكافحة التطرّف» التي تختصّ بمكافحة الجماعات المتطرّفة وكشفِ طرق ومنابع تمويلها.
أهمّية هذه المجموعة تكمن في حظوتها لدى الإدارة الأميركية جرّاء فاعلية الأشخاص الذين شكّلوها وتربطهم علاقات وثيقة بها، وجُلّهم من الشخصيات ذات الخبرات الواسعة في الشؤون الخارجية والأمن الدولي، أبرزُهم رئيس المنظمة وأحد مؤسّسيها سفير الولايات المتحدة السابق لدى الامم المتحدة مارك والاس، السفير ومستشار أوباما السابق دنيس روس، المستشارة السابقة للأمن القومي فران تاونسند، والسيناتور المعروف جو ليبرمان، بالإضافة إلى الممثل الخاص للجماعات الإسلامية فرح بانديث وخبير منع الانتشار النووي غاري سامور، وغيرهم كثر.
سياسة الابتعاد عن الميدان و»النأي بالنفس» الأميركية المعتمَدة منذ وصول أوباما إلى السلطة لم تثمِر غيرَ قتلِ زعيم تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن، بينما ترتفع معدّلات الكراهية ضد الولايات المتحدة إلى حد يتجاوز السؤال الشهير عقب أحداث 11 أيلول: لماذا يكرهوننا؟
إلى الآن لم تُقرّر واشنطن بعد استراتيجيتها لمرحلة ما بعد الحروب الجوّية المتنقلة بين العراق وسوريا. ولم تُجِب على أسئلة مراكز الأبحاث عندها والمتعلقة بوجوب الانخراط على الأرض لفهمِ طبيعة شعوب المنطقة. والأرجح أنّ ذلك أفضل لنا، لأنّنا إلى الآن لم ننفض موروثاتنا إزاء ما تصدّره لنا «النصرة» و»داعش» و»حزب الله» من قبلهما.