تزامُناً مع دخول «عاصفة السوخوي» مرحلتها الأولى أسبوعَها الثالث، ارتفع منسوب التوتر في بيروت على وقع خطابات ناريّة متبادلة تجاوزت في الأيام الماضية السقوفَ التقليدية التي حَكمت المواقف، فأبقَتها تحت سقف «الحوار للحوار» الجاري بوجهَيه في عين التينة وساحة النجمة. وهو ما أوحى بأنّها «حرب طواحين هواء» لا يمكن أن تُغيّر موازين القوى. كيف؟ ولماذا؟
على رغم كلّ النصائح الديبلوماسية الدولية التي حمَلها سفراء الدول الكبرى التي تدير المواجهات في العراق وسوريا واليمن وغيرها إلى اللبنانيين برسائل مباشرة «من الفم إلى الأذن» ومن دون وسَطاء، بعدم انتظار ما ستؤول إليه التطورات في سوريا أو في أيّ ساحة من ساحات المواجهة لترجمتها في لبنان، بقيَ بعض اللبنانيين منشغلاً بإحصاء الغارات الجوّية الروسية على مواقع الجماعات المناهضة للنظام السوري من دون تمييز يَعدّ الأيام لترجمة سراب الانتصارات الروسية في لبنان، فيما يرصد آخرون مدى انغماس الروس في الوحول السورية ويترقبون ورطة روسيّة تُحيي دور موسكو في «أفغانستان جديدة».
كلّ ذلك يجري، فيما اللبنانيون منغمسون في جدل بيزنطي حول أولوية انتخاب الرئيس أو قانون الانتخاب. وهم مفروزون حول عناوين شتّى، من آلية العمل الحكومي وصلاحيات رئيس الجمهورية والحكومة ودور المجلس النيابي التشريعي إلى مصير النفايات المكدّسة على مساحة لبنان بعد طيّ ملفّ الترقيات والتعيينات العسكرية قبل أيام. وهم مطمئنّون إلى الحد الأدنى من الأمن الداخلي برعاية إقليمية ودولية لا تتزَحزح مهما اشتدّت النيران من حولنا.
حتى الأمس القريب كانت المواقف من مجمل هذه العناوين لا تزال تحت سقوف الحِرص على التهدئة والحفاظ على الحد الأدنى من الأمن الهشّ، يُترجمها الحِرص على استمرار الحوار على رغم معرفة الجميع بأنّ الذي يجري لا يشبه سوى «الحوار لمجرّد الحوار»، سواء في عين التينة بين «حزب الله» و«المستقبل» أو على مستوى «هيئة الحوار الوطني» في ساحة النجمة.
في هذه الأجواء اشتعلت الجبهات سياسياً مجدّداً، واعتلى وزير الداخلية نهاد المشنوق منصّة الذكرى الثالثة لاستشهاد اللواء وسام الحسن ليفاجئ الجميع بالتشكيك في القدرة على الاستمرار في حوار عين التينة مع حزب الله، أو في الحكومة على قاعدة «ربط النزاع» بينهما.
وجاء الردّ سريعاً من السيّد حسن نصرالله، مع ضربة يد على الطاولة مرّتين، بتخييرهم مِن دون حرَج بين الاستمرار في الحوار أو في الحكومة مؤكّداً أنّ قيادة الحزب مدعوّة لتناقشَ استمرارها في هذا الحوار أو عدمَه.
وعليه، تكشف مصادر واسعة الاطّلاع أنّ ما شَهدته الساعات الماضية من مواقف لا يمكن ان يدوم كثيراً، ولن تكون له مفاعيل كبيرة يمكن أن تنعكس على الأرض.
لذلك قد تكون فورةً موَقّتة، بدليل أنّ الاتصالات المباشرة التي تسارعَت في الساعات الماضية طمأنَت إلى أنّ المشنوق ذهبَ بعيداً في موقفه في هذه اللحظة، وأنّ قيادة «المستقبل» لا يمكنها خوض هذا الخيار الآن. لذلك جاء الردّ من نصرالله على حدّته مربوطاً بنقاش سيَجري في قيادة الحزب للتقرير في هذا الشأن، وما إنْ تمرّ أيام عاشوراء حتى تعود المواقف إلى سقوفها العادية السابقة.
وتضيف المصادر أنّ اللحظة التاريخية لا تسمح بالمواقف الجامدة والحادّة، فما تشهده سوريا مليء بالألغاز. ولم تتوضّح حقائق كثيرة تزامنَت مع الضربة الروسية في انتظار أن تنتهي موسكو من المرحلة الأولى ليتبيّن حجمها النهائي وما يمكن ان تَؤول إليه باعتبار أنّ هناك قناعة دولية بأنّ قلب الطاولة في سوريا غير ممكن ولن يكون هناك انتصارات كبيرة تقلب الموازين، وهو أمرٌ سيقود إلى حوار بدأت مؤشّراته تظهر من أكثر من عاصمة في العالم.
فالقدرات الروسية معروفة الحجم، وما يمكن أن تصرفه موسكو في هذه العملية له سقوفه المادية والعسكرية التي لا يمكن تجاوزها في موازاة القدرات العسكرية السوريّة المحدودة. فالجميع لن يستطيع المضيّ في خطواته إلى ما شاء الله، وهناك تفاهمات ستضع حدّاً للعمليات العسكرية التي لن تخرج عن المنتظر منها. فالانقلابات في موازين القوى غير واردة، وقد تحمل الأسابيع المقبلة شكلاً من أشكال حرب الاستنزاف.
وبناءً على ما تقدّم، لا يرى المراقبون ما يقود إلى قلب الموازين وتغيير المعادلات، ما يوحي بأنّ ما يجري هو «حرب طواحين الهواء» على وقعِ «عاصفة السوخوي» إلى أن تأتي اللحظة التي يمكن أن تشكّل إشارةً للخروج من النفق الذي دخلته البلاد ومعها الحكومة ومؤسسات الدولة من دون وجود أيّ موعد محدّد لتلك اللحظة، ولن يكون مفاجئاً طول الانتظار.