يربط الفساد والنشاط الإقتصادي علاقة وطيدة أخذت ترمي بثقلها على المالية العامة وبالتالي على الشقّ الإجتماعي، من ناحية غياب العدالة الإجتماعية لصالح المُفسدين ولكن أيضًا على الفقر الذي وصل إلى مستويات كارثية. وتُعتبر مُكافحة الفساد عُنصرا أساسيا لرفاهية المُجتمع وعامل نجاح في إدارة سياسات التنمية.
وفقًا لإجماع واسع نسبيًا من قبل الباحثين، يُنظر الى الفساد على أنه تحويل للسلطة الإستنسابية التي يتمتّع بها شخص مُعيّن لمصلحة طرف ثالث (الذي يعرض الرشوة). وبالتالي (أقلّه نظريًا) من المُمكن أن يخضع كل تفويض للسلطة الإستنسابية لعملية فساد مما يُشكّل تحديًا للمجتمعات نظرًا إلى التداعيات الكارثية على الإقتصاد وعلى المُجتمع كما هو الحال في لبنان.
هناك ثلاثة مؤشّرات أساسية يُمكن من خلالها إستخلاص وجود الفساد في بلد مُعيّن: (1) وضع المالية العامّة، (2) مستوى الفقر، و(3) مستوى الخدمات العامّة. وبالتالي أي بيئة أو مجتمع تكون فيه هذه المؤشرات مُتردّية، يكون فيع الفساد مُستشريا.
إن سوء استخدام السلطة الإستنسابية التي تغذّي الفساد يستند إلى اختلاف المصالح بين صاحب السلطة وصاحب الرشوة. هذا الاختلاف هو السمة الرئيسية لموقف صاحب الرشوة تجاه صاحب السلطة. وتحديد خصائص هذه العلاقة يجعل من الممكن فهم طبيعة عقد الفساد بين الطرفين حيث من المفروض أن هذه العلاقة تحوي على شقّين مع دوافع متناقضة: الأولى هي العلاقة الطبيعية (إجراء معاملة، الإشتراك في مناقصة…)، والثانية هي ميثاق أو عقد الرشوة. إن خصوصية تموضع صاحب الرشوة نسبة إلى صاحب السلطة، تسمح بفهم كامل لعملية الفساد.
تشريح علاقة الفاسد والمُفسد
تنصّ نظرية الـ Principal-Agent على أن هناك أربع حالات ممكنة تضع الطلب (لاعب من القطاع العام – المسؤول) مع العرض (لاعب من القطاع الخاص – صاحب الرشوة) :
أولًا – حالة التساوي بين الطلب والعرض (الإحتكار الثنائي): تنصّ هذه الحالة على أن ميزان القوى بين العرض والطلب متوازن حيث أن النخبة السياسية والنخبة الإقتصادية تتواجد في حال تناغم كّلي يسمح لها بالإتفاق على عقود الفساد في ما بينها مع إستثناء صغار الموظفين الذين يخضعون لسلطة القانون. هذه الحالة تنطبق على الدول المُتطوّرة مثل الدول الأوروبية حيث عمدت النخبة السياسية إلى وضغ قوانين تمنع صغار الإدارة العامّة من القيام بعمليات فساد.
ثانيًا – حالة سيطرة الطلب على العرض (Cleptocraties): في هذه الحالة هناك نوع من الإبتزاز يُمارس من قبل القطاع العام على القطاع الخاص حيث لا يوجد للأخير كلمة في حجم الرشوة. لذا نرى منافسة ضخمة بين أفراد القطاع الخاص لدفع الرشاوى ويتمّ في بعض الأحيان إستخدام القوّة لإلغاء المنافسين الذين يتواجدون في حال ضعف نسبة للقطاع العام. وتنصّ النظرية على أنه في هذه الحال، هناك هدر لحقوق الإنسان وحقّ الملكية في البلد المعني وتُصنّفه النظرية على أنه أسوأ أنواع الفساد («الفساد المُستشري») وله مفاعيل سلبية جدًا. وتُضيف النظرية أنه في هذه البلدان يسعى الأغنياء ورجال الأعمال في القطاع الخاص للحصول على مناصب عامّة بهدف الحفاظ على ثرواتهم الشخصية وتفادي الإبتزاز من القطاع العام. هذه الحالة تنطبق على دول في طور النمو.
ثالثًا – العرض يفوق الطلب: في هذه الحالة هناك نخبة من القطاع الخاص عادة ما تكون رجال أعمال يملكون ثروات هائلة أو شركات عالمية، تعمد إلى الضغط على القطاع العام بهدف الفوقية. هذه الحالة تتواجد في بلدان فقيرة جدًا (أفريقيا) حيث أن حكّامها يجدون هذه الوسيلة سهلة لتجميع الثروات. لذا نرى أن الدولة (وحكامها) تخضع إلى إبتزاز هذه النخبة كما فعلت شركات النفط العالمية مع بعض حكام الدول الأفريقية.
رابعًا – حالة التشرذم حيث أن عمليات الفساد تبقى مُتشرذمة نظرًا إلى كثرة اللاعبين من جهة العرض والطلب. هذه الحالة تتواجد فيها بعض دولّ أوروبا الشرقية مثال أوكرانيا ورومانيا وغيرها من الدولّ التي خرجت من كنف الشيوعية السوفياتية.
تداعيات الفساد
للفساد تداعيات سلبية كثيرة ولا يوجد أي تداعيات إيجابية بإستثناء المفاعيل على الفاسد الذي يزيد من ثروته الشخصية على حساب المال العام. فالفساد يضرب اللعبة الإقتصادية بالكامل من ناحية أن مبدأ «التساوي في المعلومات والحظوظ» يتمّ ضربه بعرض الحائط بوجود الفساد وهذا الأمر يجعل توزيع الثروات الناتجة عن النشاط الإقتصادي محصورة في قلّة من الأشخاص في المُجتمع مما يضرب العدالة الإجتماعية ويزيد من الفقر خصوصًا بين الفئات الضعيفة في هذا المُجتمع.
أيضًا للفساد ضررّ على المالية العامّة التي تُعتبر الضمانة الأولى للعدالة الإجتماعية. فالفساد يمنع الأموال عن خزينة الدولة التي لا تستطيع القيام بمشاريع ذات طابع إجتماعي ولا تأمين خدمات عامّة على مستوى عصرنا الحالي. ولكن الأصعب (كما هو الحال في لبنان) أن الفساد قدّ يؤدّي إلى ضرب البيئة الإقتصادية من خلال حرمان الإقتصاد من الأموال بهدف الإستثمارات (منافسة القطاع العام للقطاع الخاص على أموال المصارف). هذا هو بالتحديد ما يعيشه لبنان حاليًا مع إزدياد طلب الدولة على أموال المصارف وبالتالي، لم تعدّ المصارف مُهتمّة بإقراض القطاع الخاص إن للإستثمار أو الإستهلاك.
ولا يُمكن نسيان ما لضعف مالية الدولة من ضرر على المواطن إجتماعيًا من خلال فرض الضرائب الذي يُصبح إلزاميًا لسدّ حاجة الدوّلة إلى الأموال مما يزيد من الفقر. هذا الأمر (بإعتقادنا) سيؤسّس لثورة إجتماعية في لبنان إذا لم يتمّ القيام بإصلاحات لمكافحة الفساد.
إن كلفة الفساد على لبنان هي 10 مليار دولار سنويًا أي ما يقارب الـ18% من الناتج المحلّي الإجمالي مقارنة بـ2% في الولايات المُتحدة الأميركية، و3% في بريطانيا. هذه الكلفة هي خسارة لأموال كانت خزينة الدوّلة لتنعم بها لولا وجود الفساد، وبالتالي من غير المقبول الإستمرار على هذا النحو حيث أن التهرّب الضريبي وحده يقارب الـ7.2% من الناتج المحلّي الإجمالي ناهيك عن غياب الفرص الإقتصادية والتي تُشكّل وحدها ما يقارب الـ 9% من الناتج المحلّي الإجمالي.
إن هذه الأرقام تؤكّد مرّة أخرى أنه لا يُمكن وضع أي سياسات إنمائية أو إقتصادية من دون محاربة الفساد وخفضه إلى مستويات الدول المُتطوّرة. لذا المطلوب من الحكومة العتيدة وضع هذا البند في البيان الوزاري وإيلائه الهمّ الأول نظرًا إلى التداعيات الكارثية التي تنتظر لبنان في حال ترك الأمر على حاله.