قبل أيام أعلن الرئيس سليم الحص استقالته من رئاسة “منبر الوحدة الوطنية” آخر إطار سياسي بادر إلى اطلاقه قبل نحو عقد من السنين.
الأمر تم بهدوء وبمنأى عن أي تحليلات وبحث في الأبعاد، اذ ثمة من رأى انه آن لهذا الفارس السياسي النبيل أن يترجل ويستريح وقد هزمته السنون وأتعبه الداء وأحاله ايقونة سياسية يقترن ذكرها بذكر زمن سياسي كان بالامكان أن تظهر فيه حالات سياسية جديدة من خارج دائرة التقليد السياسي أو رافعة الاحزاب والتيارات الباسطة ظلّها بقوة وحصرية.
غير أن ذلك، على بداهته، لا يسقط ان الرجل يغادر للتو العمل في اطار سياسي اطلقه بعدما أعلن قبل نحو 15 عاماً انسحابه من اللعبة السياسية في صيف عام 2000 إثر هزيمته المدوية في انتخابات ذاك العام من دون أن ينجح في تكريس أسس لعبة سياسية متطورة ومفتوحة شاءها عبر صيغ وأشكال مختلفة. وبمعنى آخر لا يمكن إلا التوقف ملياً عند هذه التجربة “منبر الوحدة”) والتجارب السابقة الحافلة بالاحداث والمحاولات والعبر، وتالياً تحرّي نقاط القوة والضعف والاخفاق فيها خصوصاً أن صاحبها كان أحرص الناس على تأصيل تجاربه وتسليط الاضواء عليها من خلال أكثر من 10 كتب ألّفها في فترات متعددة.
ليس جديداً القول ان الحص ولج عالم السياسة من بابين أساسيين: آدميته وعلمه ودرايته بالاقتصاد خصوصاً. فقد اختار الرئيس الياس سركيس بعيد انتخابه رئيساً في عام 1976 صديقه الاستاذ الجامعي الحص لرئاسة الحكومة لمعرفته الوثقى به إبان تبووئه حاكمية مصرف لبنان فيما كان الحص رئيساً للجنة الرقابة على المصارف.
تجربة جديدة شاءها سركيس الداخل الى قصر بعبدا بعيد ما عُرف آنذاك بحرب السنتين، فلقد اختار لرئاسة الحكومة شخصية من خارج كل المعايير التقليدية المتبعة في اختيار رؤساء الحكومات، فهو (الحص) ليس سليل بيت سياسي وليس ابن تجربة سياسية مشهود لها.
منذ ذلك الحين فرض الحص نفسه حاضراً في نادي رؤساء الحكومة من جهة وعلامة فارقة في المعادلة السياسية البيروتية والوطنية عموماً، خصوصاً بعدما سجّل مواقف وممارسات سياسية مميزة وذات وقع في مجال تكريس شركة الحكم بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة لا سيما بعد اعتراضه على مراسيم وممارسات.
تلك كانت تجربته الأولى حيث كوّن لنفسه حيثية سياسية بعيدة تماماً عن الاحزاب والتحزب لكنها كانت وطنية بمفاهيم ذاك العهد.
أما تجربته الثانية الأكثر رسوخاً فكانت بعد مشاركته في حكومة الرئيس الشهيد رشيد كرامي التي تشكلت إثر احداث شباط عام 1984 وتحوّل موازين القوى لمصلحة حلف سياسي آخر قطباه بري – جنبلاط، اذ تضافرت جملة عوامل ومعطيات متتالية جعلت منه قطباً جاذباً لشريحة من المثقفين والعاملين في الشأن العام.
في أي حال، ساهم تراجع دور الزعامات السنية مع استشهاد الرئيس كرامي ومع خروج الرئيس صائب سلام من المشهد السياسي الى منفاه الطوعي في جنيف احتجاجاً على كثير من الأمور وتحوّل الأوضاع والموازين عموماً، في صعود نجم الرئيس الحص الذي عمل جاهداً لعدم حصر نفسه في اطار مناطقي او مذهبي معين، وحرص على تقديم نفسه مرجعية وطنية خصوصاً بعد تراجع دور احزاب وأفول نجم قوى. في أواخر عام 1987 اطلق الحص أول اطار سياسي واختار له اسم “ندوة العمل الوطني” كتجسيد لرفضه تكرار التجارب الحزبية ولزهده بالتيارات أو الحركات. وقد ضم هذا الاطار نخبة من مثقفي ألوان الطيف الطائفي اللبناني مع غلبة بيروتية جلية عليه.
شاء الحص ان تكون الندوة منبراً سياسياً وإطاراً يحتضن نشاطات معينة ذات طابع فكري – نقدي للوضع السائد. وضمت الندوة بداية أكثر من 150 شخصية وكانت على قدر عال من الحيوية السياسية خصوصاً أن مؤسسها كان يومذاك في أحسن حالاته السياسية والصحية.
لم يشأ الحص أن يدمغ تلك التجربة بطابع حزبي، لكنه ضم اليها حزمة من شخصيات خاضت غمار تجارب سياسية سابقاً وخصوصاً في إطار اليسار.
وبالطبع كان لـ”الندوة” وهج وألق أكبر بعد انتخابات عام 1992، وتحديداً بعد نجاح مشهود للائحة الحص في بيروت وفي وقت كان الرئيس رفيق الحريري في مطلع مشواره في عالم السياسة والحكم ولم يكن راغباً في المنافسة والحلول محلّ أحد.
وظلت “الندوة” حاجة للحص بعد اعلانه الانكفاء عن العمل السياسي إثر انتخابات عام 2000، اذ صارت ميدان نشاطه شبه الحصري في الحقل العام مع انها بدأت تعاني من تسرب العديد من اعضائها ولا سيما الذين وجدوا ضالتهم المنشودة في أماكن أخرى ومع زعامات صاعدة.
أما الاطار السياسي الثاني للحص فكان اطار “منبر الوحدة الوطنية” الذي اطلقه في 22 شباط 2005 أي في ذروة الانقسام الداخلي المصحوب بحال من التوتر. ويقول السيد سايد فرنجية الذي شارك في تفاصيل هذه التجربة منذ لحظاتها الأولى “إن هذه التجربة كانت حاجة وطنية ملحّة للبلاد عموماً من جهة، ولشريحة واسعة من العاملين في الحقل العام والقلقين على المصير الوطني من جهة أخرى”.
ويستذكر فرنجية يوم اطلاق “المنبر” حيث شارك في الاحتفال الذي أقيم أكثر من 300 شخصية من كل المشارب والمناطق ارادوا أن يكونوا قوّة ثالثة تقلص الفجوة بين القوتين المتصارعتين.
ولفت الى أن “المنبر” بدأ رحلته السياسية باطلاق 5 مبادرات انقاذية متتالية مدى 5 أعوام، وقد حملنا المبادرة الأولى الى كل القوى على ضفتي الانقسام باستثناء القوات اللبنانية. وأخذت المبادرات في الاعتبار ولقيت اصداء وترحيباً وأشعرت المشاركين في المنبر والآخرين بأن ثمة قوة ثالثة تسعى لإنقاذ البلاد وإثبات البلد ليس فقط للطرفين المتصارعين”.