عند كل محطة مفصلية، يستعيد العماد ميشال عون صورة الرئيس الحاسم، وصاحب الخيارات الواضحة البعيدة من الرمادية، بمعزل عن المضمون السياسي لخياره وطبيعة مقاربة كل طرف داخلي له. هذا ما فعله في مواجهة الاعتداء الإسرائيلي على الضاحية الجنوبية حيث اتّخذ موقفاً متقدّماً ضده، أراح كثيراً حلفاء العهد وفي طليعتهم «حزب الله»، لكنه أقلق شخصيات وقوى أخرى تنتمي الى ما كان يُعرف بـ 14 آذار.
لم يتردد عون خلال استقباله المنسق الخاص للامم المتحدة يان كوبيتش في رفع السقف والنبرة، معتبراً انّ ما حصل في الضاحية هو بمنزلة إعلان حرب يتيح لنا اللجوء الى حقنا في الدفاع عن سيادتنا واستقلالنا وسلامة أراضينا، ونحن لا نقبل أن يهددَّنا أحد بأيّ طريقة.
وقد اكتسب موقف رئيس الجمهورية أهميته من عاملين: الاول يتصل بالشكل، إذ إنه أطلقه امام ممثل أعلى سلطة دولية في العالم من دون أيّ مداورة أو مداراة، والثاني يتعلق بالمضمون القاطع والصلب الذي يعكس تناغماً مع نظرة المقاومة، وبالتالي يحصّن حقها في الرد على الاعتداء الإسرائيلي مانحاً إياه شرعية مستمدة من موقع رئاسة الجمهورية بكل وزنه ورمزيّته، الى جانب مظلة البيان الوزاري.
ويؤكد القريبون من عون انّ ما طرحه امام ضيفه الأُممي، انما يعبّر اساساً عن قناعاته التي يحملها منذ ما قبل وصوله الى قصر بعبدا، لافتين الى أنه حريص على حماية لبنان من موقع القوة لا الضعف، وبالتالي فإنّ التقاءه مع وجهة المقاومة هو تلقائي وموضوعي ولا يندرج بتاتاً في خانة تسديد فواتير مفترضة او الإيفاء بالتزامات مسبقة كما يروّج معارضوه، خصوصاً انّ الاعتداء الاسرائيلي على السيادة فاضح، ويستوجب من رئيس الجمهورية الرد الواضح.
وخلافاً لاستنتاجات خصوم العهد ممّن يفترضون انّ سلوك عون يهدد بتداعيات كبرى لأنه يلغي الحدود بين الدولة والمقاومة ويُشرّع أبواب لبنان برمته امام الرياح الإسرائيلية إذا وقعت الحرب، هناك في المقابل مَن يرى انّ العكس هو الصحيح وانّ تغطية رئيس الجمهورية للمقاومة من شأنها أن تعزّز الحصانة والحماية الوطنيتين وأن تدفع بالعدو الإسرائيلي الى مراجعة حساباته جيداً قبل أن يتّخذ أيّ قرار متهوّر، على قاعدة انّ «حزب الله» ليس معزولاً ولا يمكن استفرادُه، وهذه إحدى وظائف الرسالة الرئاسية الى كل مَن يهمه الامر.
ثم انّ اسرائيل لا تحتاج الى ذريعة من رئيس الجمهورية أو غيره لتهاجم لبنان، ولو كانت لديها القدرة على مهاجمته لفعلت ذلك، لكنها تخشى الخوض في هذه المغامرة بسبب مفاعيل توازن الردع، على ما يؤكد المتحمّسون لطروحات عون، مشيرين الى انّ التجارب السابقة تُبيّن أنه لم يخطئ مرة في خياراته الاستراتيجية، وحرب تموز ليست سوى أحد الأدلّة.
وما يجب أن يكون موضعَ استغراب، في رأي هؤلاء، ليس موقف رئيس الجمهورية المنسجم عملياً مع شعار السيادة والاستقلال والقرار الحرّ، بل موقف منتقديه ممَّن يحملون هذا الشعار ويعملون بعكسه. ويلاحظ مناصرو عون انّ البعض في الداخل يحاول الإمساك ولو بحبال الهواء في معرض رهانه على تحوّلات في موازين القوى، لن تحصل.
وإذا كان رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع قد تمنّى على عون اخيراً أن يتدخّل لدى «حزب الله» لمنعه من أخذ لبنان الى مواجهة مع اسرائيل، على وقع التوتر الأميركي- الإيراني في المنطقة، فإنّ عون أجاب جعجع، بشكل غير مباشر، عبر منح الشرعية المسبقة للرد المنتظر من المقاومة على اسرائيل بعد استهدافها للضاحية، على قاعدة انّ من حقنا الدفاع عن سيادتنا واستقلالنا.
مرة أخرى، تشعر قيادة «حزب الله» انها لم تخطئ بتاتاً حين تمسّكت بدعم ترشيح عون الى رئاسة الجمهورية، وأنها كانت محقة في ثباتها على هذا الدعم انطلاقاً من ثقتها في الخيارات والسياسات الاستراتيجية للجنرال خلافاً لراي بعض اصدقائها ممَّن كانوا ينصحون بالالتفات نحو خيار رئاسي آخر، للخروج من مأزق الفراغ في حينه.
واستناداً الى هذا المعيار تحديداً، كان الحزب ولا يزال يتعامل بكثير من برودة الأعصاب مع أيّ تباينات تحصل بينه وبين عون و«التيار الوطني الحر» حول مسائل محلية، لأنّ المحك، بل «حك الركاب» بالنسبة اليه لا يكمن في التفاصيل الداخلية المتحركة، وإنما في طريقة محاكاة المحطات المفصلية المتعلقة بالصراع الكبير، حيث ثبت بالتجربة انّ الحزب وعون يتقاطعان الى أبعد الحدود في تعريف المخاطر الإسرائيلية وتحديد نمط التصدي لها.