السلطة التشريعية تؤدي “قسطها للعلى” وتقذف الحكومة بـ”كرة” البطاقة التمويلية “الملتهبة”
لن يتوقف “الترقيع” بالسياسة الإقتصادية قبل تشرين الأول من العام 2022. بعدها يصبح البلد أمام خيار من إثنين: الإنهيار الشامل أو البدء بالإصلاح. ومن اليوم لوقتها كل “ما تفعله” السلطة “سيشنقها”، و”سيعلّق” معها 3 ملايين لبناني على “حبال” إنهيار القدرة الشرائية والفقدان التدريجي للخدمات الصحية والتعليمية وتبخّر الودائع والإحتياطات.
تفيد مصادر متابعة أن كل الإجراءات التي تتخذ، وبمعظمها نقدية، هدفها تأجيل الإنفجار المحتم لما بعد انتهاء العهد. وبغض النظر إن كانت هذه السياسة ستصمد 16 شهراً في ظل تسارع وتيرة الإنهيار، فان كلفتها على المواطنين عموماً والمودعين خصوصاً هائلة. ذلك انها تتمحور حول فرضية وجود 14 مليار دولار “نظرياً” تمثل ما تبقى من أموال المودعين، ستوزع على البطاقة التمويلية المقرة والمقدرة كلفتها بـ 1.2 مليار دولار، وعلى استمرار دعم الأدوية وبعض المستلزمات الطبية بنحو مليار دولار، وعلى فيول الكهرباء بمقدار 1.6 مليار دولار، وعلى استيراد البنزين والمازوت بنحو 2 مليار دولار وعلى الطحين بـ 150 مليون دولار، وعلى تسديد جزء من الودائع بالعملة الصعبة بمقدار 1.5 مليار دولار. ما يعني أنه إذا لم يتغير شيء بقوانين اللعبة فان التوظيفات الإلزامية ستنخفض بما لا يقل عن 7.5 مليارات دولار في الفترة الفاصلة المقبلة. ومع كل تراجع بالتوظيفات تزداد الضغوط على الليرة، بناء على قاعدة العرض والطلب البسيطة.
“البطاقة” عود على بدء
“كيفية توزيع أعباء وتمويل البطاقة وآلياتها ستبقى على عاتق الحكومة”. بهذه الجملة أدى المشرعون “قسطهم للعلى”، وارتاح ضميرهم بالطلب من الحكومة المستقيلة حتى من تصريف الأعمال، فتح اعتماد لتمويل البطاقة في الموازنة. لكن من أين سيتأمن التمويل؟ “الأكيد من التوظيفات الإلزامية”، يجيب البروفيسور روك-أنطوان مهنا. وكل ما يشاع عن طرق أخرى لتأمين الأموال من خارج التوظيفات ما هو في الحقيقة إلا “هرطقة”. “فلا قروض، ولا مساعدات ستدفع إلى لبنان من دون قيامه بالإصلاحات المطلوبة منه”. وعدا عن قرض الحماية الإجتماعية بقيمة 246 مليون دولار الذي يغطي شريحة بسيطة ولم يوضع بعد موضع التنفيذ، فان “لا بوادر تشي بامكانية حصول لبنان على المزيد من التمويل الخارجي”، بحسب مهنا. “هذا وتتقهقر أعداد العائلات التي ستستفيد من البطاقة مع كل جولة نقاش ومفاوضات بما خص تمويلها والشريحة التي ستطالها”. كما أن هناك نية حقيقية بعدم إعطائها لكل الذين سيستفيدون من التعميم 158.
“الصندوق” والأمل بالتمويل
في الوقت الذي كان يجتمع فيه النواب لإقرار طبخة البطاقة، نقل عن وزير المالية خبر تبلّغه إمكانية تخصيص صندوق النقد الدولي للبنان مبلغ 900 مليون دولار تمثل حصته من الصندوق. الفرحة التي غمرت وجوه المسؤولين، ستتحول إلى تجهم عند معرفتهم أن “حصة لبنان البالغة 900 مليون دولار أو 633 مليون SDR (عملة الصندوق – حقوق السحب الخاصة) لن ينالوا منها بالعملة الصعبة إلا 25 في المئة بأحسن الأحوال، أي ما يوازي 225 مليون دولار فقط، والباقي يسدد بعملة البلد وبحسب سعر الصرف الذي كان معتمداً”، يقول رئيس الندوة الإقتصادية اللبنانية د. منير راشد. وإذا أراد لبنان استكمال الإستدانة من الصندوق والدخول في برنامج معه، فعليه تلبية مجموعة من الشروط المسبقة، خصوصاً أنه يعتبر متعثراً ومتوقفاً عن الإصلاحات منذ زمن، وأهمها: تحرير سعر الصرف بشكل تدريجي، وهيكلة الديون والتفاوض مع الدائنين وإصلاح تعرفة الكهرباء… هذه الشروط التي تكون عادة مربوطة بفترة زمنية، من المستحيل تلبيتها في غضون شهر أيلول للحصول على التمويل المرتجى. أمّا إذا أراد لبنان حصر الإستفادة بحصته، فيخرج ساعتذاك من عضوية “الصندوق”. والمبلغ الذي يحصل عليه يوضع في المصرف المركزي، ويكون له ملء الحرية باستخدامه كما يشاء.
استحالة التمويل الخارجي والمستوى الخطير الذي وصلته الأزمة، ستفرض على الحكومة استمرار الدعم المرشّد. إلا أن ما يحصل اليوم لا يعتبر ترشيداً، إنما هندسة جديدة تقضي بتسديد نفس الكمية، أو حتى أكثر، من الدولارات لكن مقابل 3900 ليرة بدلاً من 1500 ليرة. هذه الأموال “ستؤمن مما تبقى من أموال المودعين حتماً”، يقول البروفيسور مهنا. و”من المتوقع أن يستعمل مصرف لبنان كمية أكبر من الدولار في الفترة المقبلة لاستيراد المشتقات النفطية وبقية السلع، نتيجة الإتجاه التصاعدي لبرميل النفط، وانعكاسه على مختلف الأسعار في الأسواق العالمية”. وبالتالي فان تقاضي المركزي 3900 ليرة مقابل الدولار في ظل سعر صرف حقيقي يوازي 18 ألف ليرة لن يخفض الطلب، بل العكس سيحفزه أكثر. فـ”تجار السلع المدعومة سيعمدون إلى مضاعفة الكميات المستوردة خلال الأشهر الثلاثة المقبلة للإستفادة القصوى من السعر المنخفض للإستيراد. وسيستمرون باللعبة القديمة نفسها أي التهريب والتخزين والإحتكار لتحقيق أرباح خيالية على حساب المواطنين. يساعدهم على ذلك، غياب السلطة الرقابية، وعدم وجود نية حقيقية لوقف التهريب والتهرب”، بحسب مهنا.
وِفر بـ 20%
إذا كان الأمل بتغيير سياسي جدي معدوم، فان “بامكان الحكومة المستقيلة القيام بعدة خطوات لتخفيف ضغط الأزمة، سنداً على الفقرة الثانية من المادة 64 من الدستور”، برأي مهنا. ومن هذه الخطوات: العودة إلى التفاوض مع صندوق النقد الدولي الذي يمثل السبيل الوحيد لوقف انهيار سعر الصرف. تشكيل خلية أزمة طارئة من الحكومة والنواب والمدراء العامين لوضع آلية لوقف التهريب، الذي يستنزف الدعم. تكليف لجنة وطنية بمشاركة نقابية لاستيراد البضائع الأساسية والحد من الغش والإحتكار والتخزين والتلاعب بالأسعار الذي يمارسه بعض التجار. هذه الآليات العلمية توفّر على الدولة والمواطنين ما لا يقل عن 20 في المئة من الفاتورة التي يدفعونها. طلب “دبس” الحلول من “نمس” السلطة يبدو المستحيل بحد ذاته. وهذه الحقيقة لا تعود إلى تقصدهم “عدم فعل الصواب” كما اتهمهم البنك الدولي فحسب، إنما “لعدم كفاءتهم”، من وجهة نظر مهنا. “حيث احتل لبنان المرتبة ما قبل الأخيرة قبل اليمن مباشرة في تقرير التنافسية في العالم العربي الصادر مؤخراً عن منتدى الإقتصاد العالمي، لجهة كفاءة الجهات الرسمية فيه”.