اتصل بي صباح أمس صديق عزيز من أبرز الشخصيات العلمية، والذي سبق له أن عمل مستشاراً لعدد من رؤساء الحكومات، من رشيد كرامي، مروراً بسليم الحص ووصولاً إلى رفيق الحريري ليقول لي بأنه قد اعتراه مزيج من مشاعر الذهول والسخرية جرّاء متابعته لمجريات اجتماع بعبدا، الذي دعا إليه الرئيس ميشال عون «مجموعة الدعم الدولية من أجل لبنان» من أجل المطالبة، لا بل التذكير بمدى حاجة لبنان للحصول على مساعدات خارجية، تساعده على تخطي المصاعب التي يواجهها اقتصادياً ومالياً بالاضافة إلی متطلبات المعركة القاسية التي فرضتها عليه جائحة «كورونا». وتساءل صديقي: بأي منطق يُمكن لرئيس الجمهورية ورئيس الحكومة مطالبة المجموعة بالوفاء بالتزاماتها لتقديم 11 مليار دولار في مؤتمر «سيدر» في الوقت الذي لم ينفذ فيه لبنان أية خطوة إصلاحية خلال سنتين؟
يبدو بأن الرئيس عون قد سعى من خلال الدعوة إلى اجتماع بعبدا للاستفادة من التعاطف الذي عبّر عنه المجتمع الدولي مع لبنان لمواجهة جائحة كورونا، من أجل العمل على فك طوق الحصار السياسي والاقتصادي المفروض على لبنان بسبب تخلفه عن تنفيذ الالتزامات التي تعهد بها في مؤتمر «سيدر»، والتي جرى التشديد على الالتزام بها دولياً سواء من خلال الموفدين أو من خلال اجتماع اللجنة الاستراتيجية لمؤتمر «سيدر» في منتصف تشرين الثاني 2019، حيث كان من المنتظر أن يباشر لبنان بتنفيذ اصلاحاته، من خلال الموازنة العامة. لكن لم يحدث أي شيء من هذا القبيل، حيث جاءت الموازنة محمّلة بعجز جديد يقارب ستة مليارات دولار، تضاف على الدين العام الذي وصل إلى عتبة التسعين مليار دولار، والذي دفع لبنان إلى التمنع عن دفع سندات «اليوروبوندز» المستحقة خلال عام 2020، والوعد بالعمل على إعادة هيكلة ديونه السيادية.
درج لبنان على استدراج الدول العربية والغربية للتعاطف مع قضاياه في زمن الضيق والعوز، ولكنه قد غالى في استعطائه لهم، هذا بالإضافة إلى عدم وفائه بكل الوعود التي قطعها على نفسه، سواء لجهة القيام باصلاحات مالية واقتصادية أو باعتماد سياسة النأي بالنفس، وتحييده عن الانغماس في الصراعات الإقليمية المحدقة. ويحاول اليوم لبنان من جديد ركوب العوامل الإنسانية التي اثارتها جائحة «كورونا» لتحريك مشاعر «مجموعة الدعم الدولية من أجل لبنان» لمطالبتها بالدعم المالي اللازم لإخراجه من ازمته المالية والاقتصادية والاجتماعية. لقد سبق أن طالبت المجموعة الدولية لبنان، وفي أوقات متفاوتة، وكان أبرزها أثناء زيارة رئيس الحكومة السابق سعد الحريري إلى فرنسا في 20 أيلول 2019، حيث تركزت مطالب الرئيس ماكرون على ضرورة تحييد وتحصين لبنان سياسياً واقتصادياً وأمنياً، من أجل فتح الباب لتدفق المساعدات المقررة له في مؤتمري «سيدر» وروما الخاص بتسليح وتجهيز الجيش اللبناني.
يمكن اعتبار الدعوة التي وجهها الرئيس عون لانعقاد اجتماع بعبدا بمثابة «مُغامرة» جديدة، في سياق المغامرات العديدة السابقة التي ركبها عربياً ودولياً، والتي أنتجت حوله طوقاً من العزلة، حيث بات متهماً بالشراكة الكاملة في السلطة مع حزب الله، ولدرجة سميت فيها الحكومة الراهنة بحكومة حزب الله، من هنا، فإن الظروف الإنسانية التي فرضتها جائحة «كورونا» على لبنان لن تكون كافية لإقناع المجموعة الدولية بأن سلّة الإصلاحات التي وعد بها الرئيسان عون ودياب ستكون جاهزة وصالحة للتنفيذ في الأسابيع المقبلة، وبأن هذه الوعود لن تتعدّى كونها ذر رماد في العيون، لأن الوقائع على الأرض مع كل ما يدور في كواليس العهد والحكومة لا تؤشر إلى وجود توافق بين القوى السياسية المشاركة في الحكومة على الشروع بأية خطوات إصلاحية، حتى ولو كانت تجميلية، كالوعد بإجراء تدقيق في كل حسابات مصرف لبنان، أو الوعد بإعادة هيكلة الدين العام.
في مراجعة لمضمون ما ورد في خطابي الرئيسين عون ودياب لا يمكن تصوّر ان الخطابين يقدمان أية خدمة لمحاكاة الدول الأجنبية «الداعمة للبنان»، واستعادة ثقتها بالعهد والحكومة، حيث يمتلك ممثلوها الذين دعوا للاجتماع أدق المعلومات عمّا يجري في لبنان، وهم يُدركون بأن الظروف السياسية الراهنة، هي غير مؤاتية كلياً لاعتماد أية خطوات إصلاحية قد تطرحها الحكومة، وبأن سلوكية الفساد وتوريط لبنان بالصراعات الإقليمية مستمرة، طالما انها تخدم مصالح حزب الله وحلفاءه الداخليين والخارجيين. لقد كان أولى بالرئيسين عون ودياب توجيه خطابهما للداخل اللبناني لكسب لمزيد من الوقت والتسويق لتأخير مشروع الإصلاحات، وذلك انطلاقاً من التداعيات الإضافية على المستويين الصحي والاجتماعي التي فرضتها جائحة «كورونا».
في ظل الطوق السياسي والدبلوماسي الذي يحيط بالعهد عربياً ودولياً، وفي ظل الأوضاع القائمة داخل الحكومة، والقوى السياسية القابضة على قراراتها وخياراتها، فإنه من المستبعد ان تنجح كل المحاولات الراهنة أو المستقبلية في استعادة الثقة مع القوى الدولية الداعمة تقليدياً للبنان، وبما يفتح الباب امام تدفق المساعدات المالية، التي يمكن ان تساعد في إيجاد مخرج من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية.
ليس في الأفق ما يدعو إلى التفاؤل بإمكانية الحصول على مساعدات مالية، وقد يقتصر الأمر على المساعدات الطبية، ولا يبقى أمام الحكم سوى خيار الذهاب إلى صندوق النقد الدولي وقبول وصفته مع كل ما تحمله من علاجات مؤلمة.