إذا استمرّ درب الموازنة في مجلس الوزراء سالكاً من دون عراقيل، وصولاً إلى إقراراه وإحالته إلى المجلس النيابي، تكون حكومة الرئيس تمّام سلام قد حققت إنجازاً مهمّاً وبالغ الحيويّة. هذا الإنجاز طال انتظاره، مع أن الموازنة، على أهمّيتها، لن تحقق بأرقامها العقيمة رخاء لبنان أو ازدهاره، لكنها، على الأقلّ، ستجعله من الناحية المالية «دولة طبيعية» مثل أي دولة أخرى في العالمين المتقدّم أو المتخلف.
ولا يحتاج المرء إلى عناء كبير ليتلمّس رعاية الرئيس نبيه برّي لهذا المسار وإصراره عليه. وهذه الرعاية تعطي الأمل بإمكانية مرور المشروع في لجنة المال والموازنة ثم في الهيئة العامّة للمجلس النيابي، وسط حقول المزايدات السياسية المنتظرة وغريزة التعطيل المتنامية في حياتنا السياسية. لقد اكتسب التعطيل في العقد الأخير مشروعية مزوّرة من خلال الادِّعاء الباطل بأنه وسيلة لضمان الحقوق الطائفية.
ما زال الطريق طويلاً أمام مشروع الموازنة حتى يتحوّل إلى «صك تشريعي»، كما يصفه قانون المحاسبة العمومية. وهذا يعرّضه لمخاطر التوقف في منتصف الطريق نظراً لاحتشاد أسباب الاشتباك السياسي وعناصره الكثيرة في لبنان، التي يمكن أن تتحوّل في أي لحظة إلى عقبة كأداء في طريق المؤسّسات الدستورية وقدرتها على اتخاذ القرارات. حرب القلمون الخطرة، مشكلة رئاسة الجمهورية وتعيينات القيادات الأمنية هي نماذج «بسيطة» عن المشاكل التي يمكن أن تنفجر في وجه الدولة، من الآن وحتى إقرار الموازنة.
قبل الاصطدام الممكن بهذه «المطبّات» العويصة، رافقت مناقشة مشروع الموازنة من البداية أجواء لا تدعو للارتياح.
مثلاً على ذلك، تسرّب إلى وسائل الإعلام أن مجلس الوزراء عندما انتهى من مناقشة الفصل الأوّل وشرع بدرس الفصل الثاني، المخصّص لنفقات الاستثمار، اصطدم بشهيّة عدد من الوزراء الذين طالبوا بلحظ مزيد من المشاريع الإنشائية للمناطق.
الأمر يبدو للوهلة الأولى مقبولاً ومشروعاً، فالمطالبة بمشاريع للمناطق ليست حقاً فحسب بل هي واجب. ولكن هذه المطالبة تفقد مشروعيتها «وبراءتها» عندما تُطرح من دون رؤيا وطنية شاملة للتنمية والنموّ، بل في إطار المحاصصة وتقاسم خيرات الدولة والرغبة بتحقيق مكاسب فئوية على حساب المال العام.
هنا تصبح مطالب التنمية المزعومة هدراً وتبذيراً و «تناتشاً» للمال العام، في ظل ضعف مالية الدولة، التي لا تحتمل ترف القوى السياسية ولا تمويل مصالحها الفئوية. لا ضرورة لتكرار المؤشرات الضعيفة للمالية العامّة، لكن من المفيد الإشارة إلى أن حصّة الأسد في الإنفاق العام هي للنفقات الجارية، ومع ذلك فإن تطوّر الإيرادات كل سنة يقلّ عن تطوّر النفقات، ممّا يفسر تراجع المؤشرات المذكورة في السنوات الأخيرة.
سنة 2014 ارتفعت الإيرادات الضريبية بنسبة 2.7% بينما بلغ نموّ نفقات الموازنة أكثر من 15%، فاعتمدت الخزينة على تحويلات الهاتف الاستثنائية للجم الرصيد المالي السلبي. في السنة نفسها، مقارنة بالنموّ الضعيف لعائدات الضرائب، زادت التحويلات لمؤسّسة كهرباء لبنان بنسبة 18.2% وفوائد الدين العام بنسبة 11%. أي مقابل كل ليرة إضافية واحدة في العائدات الضريبية ازدادت تحويلات الكهرباء 6.7 ليرات وفوائد الدين العام أربع ليرات.
وإذا كانت القوى السياسية النافذة ترغب بإنصاف المناطق يمكنها توفير الأموال لها عن طريق سد الفجوة الهائلة الناجمة عن تحويلات الخزينة إلى مؤسّسة كهرباء لبنان، المسؤولة عن 40% من كتلة الدين العام، والتي يوازي مجموعها المتراكم بين 1992 و2013 أكثر من نصف الناتج المحلي نهاية تلك الفترة. بعدما أورد مكتب البنك الدولي في بيروت هذه الأرقام عقـّب بقوله: «إن بعض الحلول التي ستساهم بدعم الوضع المالي في مؤسّسة كهرباء لبنان معروفة … لكن الاعتبارات السياسية والمذهبية قد أدّت حتى اليوم إلى عرقلة أي تقدّم على صعيد هذه الإصلاحات».
من جهة أخرى، ليس هناك اتفاق على إدراج كلفة سلسلة الرواتب ضمن الموازنة، كما تقضي القواعد البديهية الأساسية للمالية العامّة. وما زال موضوع قطع حساب السنوات السابقة مبهماً، وبرغم الصمت الذي يحاط به، من غير المعروف ما إذا كان سيعتمد مرّة أخرى سبباً لمنع إصدار الموازنة. لقد أسيء استعمال هذا الموضوع في الصراع السياسي خلال السنوات السابقة، واختلطت الحقيقة بالديماغوجية والقواعد القانونية بالمناورات السياسية، فتوقف صدور الموازنات وقوانين قطع الحساب وتضاعف سبب المشكلة، أي الإنفاق من دون إجازة برلمانية، على قاعدة «داوني بالتي كانت هي الداء».
كل الآمال معلقة على نجاح الحكومة، وبعدها المجلس النيابي، في إنجاز الموازنة بعد عشرة أعوام من الانقطاع. ولكن البيئة السياسية المضطربة والأساليب «التدميرية» المعتمدة في الصراع السياسي في لبنان، كلها توحي بأن على البلاد أن تنتظر.