بمعزل عن الاعتبارات التي أملت على رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي رفع الصوت عالياً تحذيراً من مغبة الاستمرار في حالة الفوضى النقدية والمالية، وما اذا كانت «شخصية» ناجمة عن سخطه لتعرضه دون سواه من التركيبة الحاكمة «للرجم» المستمر وتحميله مسؤولية «صلب الاقتصاد»، أو هي فعلاً مبنية على معطيات دقيقة أتته من خلف الحدود وتنذر بقدوم إجراءات عقابية قد تطال الدولة برمتها اذا ما استمر الاتكال على اقتصاد الكاش… فالأكيد أنّ الأمور بلغت خطوطاً حمراء يصعب تجاوزها أو ترقيعها. والأرجح أنّ وتيرة الضغط الخارجي ستتزايد.
اذ إنّ اصرار حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري، من جهة، على التقيّد بمندرجات قانون النقد والتسليف، والواقع المزري الذي بلغته الخزينة العامة من جهة أخرى حيث صار من الاستحالة صرف أي قرش إضافي من دون المساس بالاحتياطي الإلزامي، وهو فعلياً ما تبقى من أموال المودعين، يصعّبان مهمة حكومة تصريف الأعمال لتمرير الوقت الرئاسي المستقطع.
تكفي الضجة التي أثيرت حول باخرة الفيول التي استقدمها وزير الطاقة وليد فياض، تحت عنوان عدم الإلتزام بمقتضيات القرار الصادر عن لجنة تقييم خطة الكهرباء في اجتماع 12 نيسان الماضي والقاضي «بإجراء مناقصة جديدة لشراء 66 الف طن متري من الغاز أويل و21 ألف طن متري من الفيول أويل على أن يتم إطلاع اللجنة على نتيجة المناقصتين ومراحل تنفيذ الخطة خلال فترة التجميد وعدم البت بهما قبل صدور قرار واضح بهذا الشأن»، وتركها راسية قبالة الشاطئ اللبناني من دون البتّ بأمرها، للإشتباه في أنّ الأمور أكبر من باخرة فيول أو من نكد سياسي بين «التيار الوطني الحر» وخصومه، اذا ما تأكد أنّ ثمة قراراً مركزياً بعدم الدفع، لأنّ الاعتماد غير متوفر بالأساس، ولن يستطيع أي مسؤول مهما علا شأنه أو يوفّره.
باختصار، انتهى زمن الترقيع وتركيب الطرابيش المالية. لا ترف في الوقت ولا في الاعتمادات. بالكاد يستطيع المصرف المركزي تأمين رواتب القطاع العام وبعض الأدوية والاستحقاقات الداهمة. أمّا غير ذلك فصار من الكماليات التي يرفض التكفّل بأكلافها. ومنها مثلاً فيول مؤسسة كهرباء لبنان.
بهذا المعنى، يُفهم أنّ الأمور بلغت مطارح خطيرة جداً. باتت كلفة الانتظارات (بالمعنى السياسي) من «اللحم الحيّ»، وأصحاب النَفَس الطويل راحوا يقيسونها بالأسابيع لا الأشهر. والأرجح أنّ القوى السياسية باتت بحاجة للنزول عن الشجرة، والبحث جارٍ عن سلالم تنزلهم.
رغم ذلك، يقول المتابعون إنّ هذا النَفَس التحذيري صار عمره أشهراً، وليس ابن اليوم، وبالتالي اذا لم يقترن بخطوات عملانية تعبّر عن عجز الخزينة العامة عن تسديد النفقات التشغيلية للدولة، ما قد يؤدي إلى حالة فوضى اجتماعية قد تحرّك المياه الراكدة… فهو غير ذي جدوى.
وسط حالة الإفلاس هذه يصل الموفد الفرنسي جان ايف لودريان إلى بيروت لقيادة مهمة حوارية، حُكم عليها مسبقاً بالفشل ولو أنّ بعض الكتل سارع إلى توثيق ردّه على الأسئلة المدرجة في الاستمارة الفرنسية. لكن كتلاً أخرى، معارضة أعلنت سريعاً عن رفضها لهذه الصيغة، وقد تلاقي الموفد الفرنسي حين سيحدد موعد عودته إلى بيروت، بموقف جامع يعيد تأكيد تبنيها توصيات اللجنة الخماسية، وهذا لا يعني عدم المشاركة في لقاءات ثنائية مع لودريان لإبلاغه شفهياً مقاربة هذه الكتل للاستحقاق الرئاسي.
اذاً، لا تعويل على الدور الفرنسي الذي يتخبّط في سلوكه، بشكل يدلّ على عدم خبرة بالملف اللبناني. ومع ذلك، يقول أحد المواكبين إنّ باريس تواجه أزمة ثقة في تعاطيها مع القوى المسيحية، بعدما تبنت مبادرة المقايضة القائمة أساساً على ترشيح رئيس «تيار المرده» سليمان فرنجية، وحاولت ترويجها لدى الدول المعنية وتحديداً السعودية، رغم رفض القوى المسيحية لها، ما عرّضها لانتقادات لاذعة من جانب هذه القوى، حتى أنّ البطريرك الماروني بشارة الراعي لا يزال يتهكّم على السياسة الفرنسية في لبنان.
اذاً، العطب يكمن في عمق العلاقة بين باريس والمكونات المسيحية، وبالتالي إنّ الإلتفاف على المبادرة السابقة من خلال حوار موسع، أو حوارات ثنائية أو حوارات على شكل أسئلة واستمارات، لا يحلّ العقدة اللبّ، وهي انعدام الثقة. ولهذا، يقول المواكبون إنّ باريس، ولكي تستعيد مكانتها كوسيط مقبول من كلّ المكونات، عليها أن تعيد ترتيب علاقتها بالقوى المسيحية، عبر ممر التنازل رسمياً وعلنياً عن دعم فرنجية، الإلزامي…
بالخلاصة، هناك من يرى أنّ الرهان على الوقت، لم يعد مجدياً وباتت ضريبته مكلفة جداً على نحو «انتحاري»، والأرجح أنّ القدرة على التحمّل في لعبة عضّ الأصابع، تكاد تصل إلى خواتيمها. وثمة من يذهب إلى حدّ التلميح إلى أنّ «حزب الله» تحديداً، يميل إلى حِسبة جديدة على قاعدة البحث عن صيغة تسووية تنقذ ما تبقى من الدولة المتحللة.