مع مطلع شباط الفائت، بدأ الانهيار يتخذ طابعاً أكثر شراسة، ويتّسم بمزيد من العنف والفوضى، وسط اقتناع لدى كثيرين بأنّ هذا الانهيار مدروس ومنظّم. وثمة من يعتقد أنّ “طبخة” الانهيار اقتربت من تحقيق هدفها الأساسي، وهو تفكيك الدولة. ولذلك، يمكن القول عن الوضع اللبناني: الآتي أعظم.
بديهي أن يبقى انتخاب رئيس جديد للجمهورية هو الهدف الأول حالياً. لكن الفراغ الرئاسي يجري استغلاله لخداع الرأي العام، إذ يُقال: من دون رئيس للجمهورية لا يمكن تحقيق الإصلاح. وغالباً ما يجري تسويق هذه الخرافة لذرّ الرماد في العيون، فيما منظومة السلطة لا تريد الإصلاح ولا بناء المؤسسات ولا تهمُّها خطط الإنقاذ أساساً، والدليل إلى ذلك واضح
فالانهيار المالي انكشف في 17 تشرين الأول 2019، على رغم وجود حكومة مكتملة المواصفات الدستورية آنذاك، رئيسُها سعد الحريري الذي يقود أوسع تيار سياسي في الطائفة السنّية، وأركانُها يمثلون القوى السياسية على اختلافها.
وكذلك، في ذلك الحين، كانت قد مضت 4 أعوام من ولاية رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الذي يقود أحد أكبر تيارين يمثلان المسيحيين. وكان رئيس المجلس النيابي نبيه بري، ولا يزال، يمثل أحد الركنين السياسيين الأساسيين في الطائفة الشيعية. وهذا يعني أنّ الانهيار وقع فيما لم يكن أي مركز شاغراً.
وعلى العكس، بقيت تتكامل عناصر الانهيار، على مدى سنوات قبل 17 تشرين، برعاية طاقم السلطة نفسه. أي إنّ الفساد وهدر المال العام وتجاوُز الدستور والقوانين كانت مزدهرة بلا حسيب أو رقيب. ولم يقم أي من أركان السلطة بقرع جرس الإنذار إزاء الكارثة الآتية.
بل كانت تَرِد إلى المسؤولين تحذيرات دولية وعربية مباشرة، أبرزها الرسائل الفرنسية التي سبقت مؤتمر «سيدر» في العام 2018 وواكبته وأعقبته. وقد طرح الموفدون الفرنسيون على لبنان اقتراحات عملية، كان تنفيذها سهلاً آنذاك، لتجنّب السقوط المحتّم، لكن أياً من أركان السلطة لم يبدِ التجاوب.
والأنكى أنّ هذه السلطة عمدت إلى تخوين أصوات المعارضة وخبراء الاقتصاد والصحافيين، من ذوي المهنية والحسّ الوطني والرؤية، ورفعت الشعارات التي تطالب هؤلاء بالسكوت «لئلا يساهموا في زعزعة الثقة في البلد و»تطفيش» المستثمرين». وهذه الذريعة هي نفسها التي تُستخدم في الأنظمة غير الديموقراطية.
بعد 17 تشرين، خرج الحريري من الحكومة ثم انسحب من الحياة السياسية، وتشكّلت حكومتان أخريان ترأستهما شخصيتان أقل تمثيلاً للطائفة السنّية، لكن نهج السلطة لم يتغيّر. وفيما كان الانهيار في ذروته، خرج عون من السلطة، تاركاً الموقع شاغراً، فيما الحكومة في وضعية تصريف الأعمال، لكن شيئاً لم يتغيَّر أيضاً، لا خلال وجود الرئيس ولا بعد خروجه.
إذاً، لا الانهيار ناجم عن غياب رئيس الجمهورية، ولا كان قيد المعالجة عندما كان الرئيس جالساً على كرسيّه في بعبدا. واستنتاجاً، لن يتوقف هذا الانهيار ولو تمّ انتخاب رئيس، أياً يكن. وأساساً، ليس وارداً وصول الرئيس «السوبرمان» الذي يتحدّى العوائق ويحقق معجزة الإصلاح الممنوعة، لأنّ القوى النافذة إيّاها لن تسمح إلّا برئيس على شكلها ومثالها أو برئيس يوافق مسبقاً على إبقائها ممسكة بزمام السلطة ومصائر الناس على طريقتها.
إذاً، يمكن الخروج من الانهيار، الآن، وحتى في ظلّ الفراغ الرئاسي وحكومة تصريف الأعمال، لو وُجدت الإرادة الفعلية للإصلاح عند طاقم السلطة. لكن هذا الإصلاح ممنوع، لأنّه يكشف الفساد والهدر ويفضح هذا الطاقم أمام الرأي العام. ولذلك، تقوم القوى النافذة بتعطيل القضاء والمؤسسات الرقابية مسبقاً.
الذين كانوا على تماسّ مع الرئيس الحريري بضعة أيام، في زيارته الأخيرة لبيروت، نقلوا عنه انطباعات وتوقعات بالغة السلبية عن البلد للمرحلة المقبلة. وهم يقولون إنّ الرجل لم يَظهر يوماً، حتى في أسوأ ظروفه، محطَّماً كما في كان هذه الزيارة. ومن الواضح أنّه يمتلك من المعلومات ما يبرِّر هذا الانطباع.
وفعلاً، في الأسابيع الأخيرة، بدأ البلد ينزلق أكثر في «جهنم» التي تحدث عنها عون. ويعتقد بعض المطلعين أنّ الانهيار ما زال في بداياته، وأنّ ما ينتظر البلد أكبر بكثير. وعندما يُسأل هؤلاء عن الآتي يقولون: عندما يتقاطع الانهيار المالي مع فراغ أو شلل في المؤسسات، ومع تصادم سياسي داخلي وانقسام في القرار، يصبح حتمياً أن تتفكَّك الدولة وتصبح فاشلة. وعندذاك، ستخضع للوصايات الخارجية حتماً.
وهذا هو الحال الذي بدأ لبنان ينتقل إليه، إلّا إذا حدثت معجزة. وهذا الاحتمال معدوم، لأنّ المعجزات يحققها الصالحون. وهؤلاء لا وجود لهم في «جهنم».