تختلف شروط تأليف الحكومة الجديدة عن شروط سابقاتها. فمنذ العام 2005 كانت العُقَد التي تتحكم بولادة الحكومات سياسية ـ إقليمية في ظل النزاع السعودي ـ الايراني المحتدم، والذي شكّل لبنان ساحة من ساحاته.
كانت الحسابات تدور حول التوازنات وامتلاك القرار أو منعه، والحقائب خصوصاً الامنية منها وتوظيفها في النزاع الأمني الدائر في لبنان وحتى أبعد من حدوده وصولاً الى سوريا. كانت الحسابات حساسة ودقيقة، وكانت العقد الكبيرة يجري تذليلها بابتكار منح القوة لفريق وإعطاء شيفرة التفكيك للفريق الآخر، فتولد عندها الحكومة بعد درب جلجلة يطول أشهراً عدة.
واذا كانت حكومة العهد الاولى جاءت انسجاماً واستكمالاً للتسوية التي أوصلت العماد ميشال عون الى رئاسة الجمهورية، فإنّ الحسابات التي تظلل تأليف الحكومة الثانية تكاد تخلو من الشروط الاقليمية. وعلى رغم من لائحة العقوبات الاميركية ـ السعودية التي طاولت مسؤولين في «حزب الله» والتي تزامنت مع انتهاء صلاحية حكومة العهد الاولى، فإنّ المواقف التي سُجلت لاحقاً، خصوصاً مواقف الرئيس سعد الحريري، لم تظهر وجود أي ترجمة عملية سياسية للائحة العقوبات الاميركية ـ السعودية، لا بل على العكس حرص الحريري على توجيه رسائل التطمين الى «حزب الله» علناً، ولو باقتضاب، وعبر قنوات التواصل الخاصة بنحو مُسهب.
وكان الامين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله قد انتظر بعض الوقت قبل التعليق على لائحة العقوبات واهدافها، بغية تبيان كل الخلفيات وما اذا كان هنالك من ترجمة سياسية لبنانية لها. وثمّة اسباب اساسية لهذا التعفف الاقليمي أبرزها:
-1 إنّ الضغط يتركّز في هذه المرحلة على ايران في سوريا، وهو اتخذ شكل التحرك الفعلي والعملي في الميدان ما يجعل الضغوط من خلال الساحة اللبنانية في هذه المرحلة بلا جدوى، هذا اذا لم تكن في غير مصلحة خصوم ايران.
-2 انّ الانتخابات النيابية أفرزت خريطة سياسية جديدة وتوازنات نيابية مختلفة عن السابق، ما يستوجب الأخذ بها ووضعها في الحسابات المقبلة لا القفز فوقها والدخول في مواجهات تؤدي الى تعميق الخسارة.
-3 الأزمة الاقتصادية الخطيرة التي بدأت تهزّ ركائز البلد، والكلام الذي كان قد نقله سابقاً البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي عن رئيس الجمهورية العماد ميشال عون حول إفلاس البلد هو حقيقة يتناقلها المسؤولون الكبار، وكذلك العواصم الغربية المعنية بالساحة اللبنانية. وتبدو الاوساط الدولية على اقتناع بأنّ لبنان دخل فعلياً في المسار الخطر، وانّ محاولة إنقاذه تستوجب استقراراً سياسياً وجهوداً استثنائية وخطة عمل وتقشّف ومساراً مختلفاً عن المسارات السابقة. لذلك، فإنّ التواصل الحاصل بين المؤسسات المالية الدولية ومصرف لبنان يشير الى الضوء الاحمر، والى الخطر الشديد الذي يحدق بلبنان حيث يضطرّ مصرف لبنان المركزي مع المصارف الى التحايل في الاجراءات بغية تأمين السيولة عبر سندات اليوروبوند. وبَدا الرئيس نبيه بري مصدوماً، لا بل مذهولاً، حين تمّ إبلاغه بالطريقة التي اتُبِعَت لتأمين بيع سندات «اليوروبوند» بثلاثة مليارات دولار للمصارف اللبنانية.
والى ذلك، فإنّ هذا الواقع المالي الخطير يدفع القوى الاقليمية الى تخفيف شروطها عن لبنان وعدم تحمّل مسؤولية أي انهيار قد يحدث، والذي سيُعجِّل فيه ضرب الاستقرار السياسي من خلال فرض شروط صعبة على تأليف الحكومة.
هذا «التسهيل» الاقليمي دفع المسؤولين اللبنانيين الى الاعلان عن تفاؤلهم بولادة سريعة للحكومة. فعادة تكون العقد السياسية ـ الاقليمية مستعصية فيما المطالب الداخلية قابلة لتدوير الزوايا وابتداع الحلول، إلّا انّ المسألة اليوم تبدو مختلفة.
فنزاع الاحجام الدائر خصوصاً على الساحة المسيحية، والحسابات التي تُجرى بناء على خلفيات يطاول بعضها الاستحقاق الرئاسي وتعزيز الحظوظ وإضعاف فرَص المنافسين الآخرين، يجعل من العُقَد الداخلية هذه المرة عقداً صعبة تستوجب حلولاً استثنائية لا تبدو متوافرة.
قيل كثيراً عن استقالة نادر الحريري وكذلك عن «حملة التطهير»، والتي ستطاول بنحو أو بآخر الوزير نهاد المشنوق، لكنّ الأهمّ كان حول النهج السياسي الذي سيتّبعه الرئيس سعد الحريري. ففي كواليس الفريق القريب منه انّ ثمّة تعديلاً في سياسة الحريري لا يصل بالتأكيد الى حد الانقلاب على التسوية التي تمّ إرساؤها مع عون، لكنه سيطاول جوانب من الاسلوب بحيث يصبح الحريري أقلّ تساهلاً مع الوزير جبران باسيل وأقلّ برودة مع رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع. وهذا الاسلوب الجديد سيكون له أثره، ولو الطفيف، على التشكيلة الحكومية.
وتبدو زيارة الحريري للسعودية أساسية في هذا المجال، حيث سيسمع الموقف السعودي بضرورة عدم خروج «القوات» من الحكومة والاستماع لمطالبها. وفي المقابل تبدو «القوات» صلبة في تمسّكها بالحقائب الأربع، إستناداً الى ثقتها بأنّ الحريري غير قادرعلى تجاوز «النصيحة» السعودية، إضافة الى تلميحها (أي «القوات») بنشر الاتفاق المكتوب، والذي أدى الى «اتفاق معراب».
ولا تقف العقد المسيحية هنا فقط، فهنالك حقيبة كتلة «المردة»، والتي تحظى بدعم الرئيس نبيه بري. ففي حكومة العهد الاولى أظهر «الكباش» الذي حصل مدى التزام رئيس المجلس النيابي وتمسّكه بالحفاظ على موقع «المردة». كذلك هناك مقاعد للحزبين السوري القومي الاجتماعي و«الكتائب» وربما تيار «المستقبل»، الذي يريد مقعداً مقابل المقعد السني الذي سيكون مخصّصاً للنواب السنّة من خارجه.
وهناك عقدة المقاعد الدرزية الثلاثة، والتي يتمسّك وليد جنبلاط بأن تكون كاملة من حصة كتلته، وهو يستند الى سببين: الاول، الاحداث الامنية التي حصلت في الشويفات والتي تجعل من تراجعه إقراراً بالهزيمة لا تسهيلاً او مرونة سياسية. أضف الى ذلك انّ الاشتباك السياسي الحاصل بَدا في جزء منه اشتباكاً مع الوزير جبران باسيل وليس فقط مع الامير طلال ارسلان.
والسبب الثاني انّ جنبلاط يتمسّك بدخول مريح وقوي لنجله تيمور الى الحلبة السياسية، ومن خلال حضور وزاري قوي مرادف للحضور الشعبي الذي ترجمته الانتخابات النيابية.
ربما استباقاً لكل هذا النزاع، آثَر «الثنائي الشيعي» على إقفال الساحة الشيعيبة باكراً عبر التفاهم على كل الحصة الوزارية الشيعية، في لقاء الثلاث ساعات ونصف الساعة بين بري ونصرالله للمرة الاولى منذ اكثر من خمس سنوات. وبالتأكيد للقاء اسباب موجبة أخرى، منها ما يتعلق بالوضع الاقليمي والضغوط المقبلة على لبنان وضمان استقرار الوحدة الشيعية، اضافة الى ما يشبه تفويض «حزب الله» الى بري تَولّي الدفّة السياسية بإسم الثنائية.
و«حزب الله» الذي يركّز اهتماماته ويبني حساباته وفق التطورات الاقليمية الكبرى الحاصلة خصوصاً في سوريا واليمن، أعاد قراءة مرحلة الانتخابات النيابية بكل جوانبها. ومن الطبيعي ان يعطي تقييماً ايجابياً للانتخابات ونتائجها، ولكن هذا لا يمنع ظهور بعض المسائل والملاحظات التي لا بد من معالجتها بغية تجنّبها لاحقاً. لكن الأهم ظهور ما يشبه خيبة الأمل من سلوك بعض حلفائه. هي ملاحظات تدخل في باب التعامل لا في باب السياسة، لكنّ ذلك قد يؤدي لاحقاً الى تعديل في بعض سلوكيات «حزب الله».
بالتأكيد سيبقى «الحزب» متمسّكاً بحلفائه وداعماً لهم وحليفاً صلباً ومتيناً، ولكنه لن يبالغ بعد اليوم في دعمه المفتوح من دون سقف أو حدود، وهو ما اعتاد أن يفعله او اعتاد عليه بعض حلفائه.