ليس صحيحاً ان كل الحلول للأزمة المالية الاقتصادية توجب قصّاً من ودائع المواطنين أو توزيعَ خسائر يطال الجميع. ومن نَكَد الدهر أن المتسبّبين بالكارثة التي وقع فيها الشعب اللبناني يتصدرون اليوم مهمة معالجة ما اقترفته أيديهم، عبر أداة فرضوها بالقوة على الناس متنكّرين لشرعية ثورة 17 تشرين.
تطلق حكومة حسان دياب (لصاحبتها قوى “8 آذار”) البالونات، وتختبر ردود الفعل، لكن الأكيد ان مسوَّدة خطتها انعكاسٌ لسواد نيتها تجاه المواطنين الصالحين الذين أودعوا المصارف جنى تعبهم، في مقابل ذُلها ازاء السارقين الناهبين سياسيين ومصرفيين وفاسدين الذين يجب ان يعيدوا ما سرقوه مباشرة أو عبر الصفقات و”الهندسات” والخزعبلات.
الثقة ثم الثقة، شرط أي نهوض اقتصادي. فأزمة كورونا ستنتهي عاجلاً أم آجلاً، وسيعود الاقتصاد اللبناني مراهناً وبشكل أساسي على تحويلات المغتربين وعلى نشاطه السياحي. أما “زراعة العدس والفاصولياء” لتعديل موازين الموازنة والانتقال من الريع الى الانتاج، فهي رغم ضرورتها، وَهْمية الى حد كبير.
لن تعود الثقة، إذا سُلب أي جزء من أموال المودعين، وسيغرق لبنان مجدداً في دوامة الاستدانة والعجز والركود من غير نور في نهاية النفق. فالدول التي استعانت بصندوق النقد الدولي أو بمؤسسات الاقتراض العالمية لحل أزمات شبيهة قامت أولاً وقبل كل شيء بإصلاحات جوهرية اقتصادية ومالية ونقدية تحت عين وعباءة قضاء نزيه.
لا يحتاج اللبنانيون الى زحمة شركات عالمية وخبراء ومستشارين ليتبينوا الطريق الذي يجنبهم كأس “السطو” على أموال المودعين وليدركوا ان الإصلاحات الجدية هي البديل. وإذا كان الحديث عن وجوب ضبط المعابر الشرعية وغير الشرعية والجمارك وإلغاء التوظيف غير الشرعي وغيرها من مناحي الهدر بات مكروراً، فإنّ عملية الانقاذ لا بدّ من أن تعتمد على تحريك الأصول الجيدة والموجودة التي تملكها الدولة والمهملة أو المتروكة نهباً لشذاذ الآفاق وقوى الأمر الواقع، كونها ذات قيمة قابلة لإدخال مردود أو للتسييل.
الخصخصة، وصفة مجرَّبة وصالحة بالتأكيد. لكنها لا تعني أبداً وضع اليد بالمحاصصة على أي مُلك عمومي. هي الخصخصة المعتمَدة في بلدان كثيرة والمتمثلة بالشراكة الفعلية مع القطاع الخاص، وعندنا ممكنةٌ في مجالات الكهرباء والاتصالات والكازينو والميدل ايست وربما الأملاك البحرية، وهي مجالات منتجة وقادرة على إدخال أموال تعدل العجز وتحرك الدورة الاقتصادية.
نعم هناك بدائل. ويعرف المختصون أصنافاً منها أكثر مما ذكرناه بكثير. لكن إرادة السلطة غائبة وتدور في حلقة مفرغة. فكيف لمن استأثر ونهب وفصَّل قوانين انتخاب واحتل المناصب وأثرى على حساب الشعب ان يغيّر عاداته ويتوقف عن التنعّم بمكاسبه؟ وكيف لمن باع السيادة والحدود مقابل النفوذ والشراكة بالفساد ان يقبل بالعودة الى حجمه الطبيعي؟ وكيف لمن يعمل لمحور إقليمي ان يعود الى لبنان والحضن العربي؟
انها معركة كل اللبنانيين اليوم، وعنوانها إفشال سرقة ودائعهم وفرض الإصلاح الحقيقي. واللبنانيون قادرون على خوض هذه المعركة، ليس لأنهم أقوياء بحقهم فحسب، بل لأن خصمَهم سلطةٌ، مشروعُها تشريع السرقات، ومشروعيتُها مسوَّدة تثير الاشمئزاز.