في منطقة تشهد مخاضاً قد يفرز خرائط سياسية جديدة، يغرق اللبنانيون في أزماتهم وخلافاتهم الآنية، لكنهم سرعان ما سيصلون إلى الاستحقاق الكبير، كسواهم من شعوب الشرق الأوسط: أيّ لبنان سيكون بعد أن تنتهي الحروب ويتم إبرام التسويات؟
تتجنّب القوى اللبنانية الأساسية إظهار تصوّرها الواضح لمستقبل لبنان السياسي وتوازنات السلطة فيه. فالجميع لا يريد ضمناً العودة إلى الصيغة التي نشأ فيها البلد، بعدما اختبرها لـ 100 عام، واكتشف ما فيها من نقاط ضعفٍ له، وهو يَتحيّن الفرص لتصحيحها. لكنه يدرك أن التصحيح خاضع لعوامل سياسية وديموغرافية ولتوازنات القوة.
قد يقال إن المسيحيين يجدون مصلحة في استمرار الصيغة القديمة، ولكن الواقع بدأ يُظهر عكس ذلك. فالمسيحيون، بسبب مأزقهم الديموغرافي، ولأنهم لا يشكلون جزءاً من امتداد مذهبي في العالم العربي أو الإسلامي، كما هو حال الشيعة والسنّة، باتوا يتطلّعون إلى صيغة تحفظ لهم مقداراً مقبولاً من الشراكة، في مواجهة الغالبيات العددية التي تحظى بدعم العالم العربي أو إيران.
لذلك، تعلو أصوات القوى المسيحية، بين حين وآخر، مطالِبة بشيء من الاستقلالية، كاللامركزية المالية الموسعة أو الفدرالية، لكن أصحاب هذه الطروحات يدركون أن لا داعي لـ«إحراقها» إذا تم طرحها في الظرف غير المناسب لإقرارها.
في المقابل، تريد القوتان الشيعيتان الأساسيتان الحفاظ على نظام يَتمركز بقوة. فلا مصلحة للطرف الأقوى في أي سلطة أن يختار نظاماً لامركزياً يُضعف سيطرته الشاملة. وفي أي حال، لأن الشريك الشيعي في السلطة هو الأقوى، حتى إشعار آخر، فإنه قادر على تأجيل أي نقاش في أي صيغة جديدة. بل إنه قادر على تكريس خيارات الأمر الواقع بمرور الوقت.
أما خيارات السنّة بالنسبة الى ما يتعلق برؤيتهم لمستقبل لبنان فهي تخالِف النظرتين المسيحية والشيعية: إنهم لا يجدون مصلحة في مجاراة المسيحيين في نزعاتهم اللامركزية، لأنهم طائفة غالبة عددياً. لكنهم يُحاذرون التخلي عن الامتيازات التي اعتادوا التمتع بها، كما الموارنة، منذ «اختراع» صيغة 1943 التي يشكو الشيعة من أنها جعلتهم على الهامش، على رغم كونهم غالبية عددية، كالسنّة.
بعد عام أو اثنين أو أكثر، سيحين موعد الاستحقاق اللبناني، وسيجد اللبنانيون أنفسهم أمام الاستحقاق: أي تركيبة سياسية وطائفية سيتم اعتمادها؟
إذا بقي الطرف الشيعي هو الأقوى، فإنه سيرفض بالتأكيد العودة إلى توازنات 1943، وأساساً هو يطرح المؤتمر التأسيسي لتحقيق هذه الغاية. لكنه قد يتمكن من فرضها بحكم الأمر الواقع من دون الحاجة إلى المؤتمر.
لكن الجميع سيواجهون التحدي الأكبر، الباقي مُستتراً إلى حد بعيد لأن الظرف لم يسمح بكشفه، وهو العدد الوازن جداً للنازحين السوريين والفلسطينيين. وإذا استمرت الجهود المبذولة لإعادة هؤلاء إلى ديارهم تراوح مكانها، لأسباب كثيرة داخلية وخارجية، فهذا يعني أن البلد سيواجه مأزقاً خطراً جداً قد يهدده كدولة وكيان، نتيجة التصادم بين نوعين من الغلبة: الشيعة الذين يملكون الغلبة السياسية والعسكرية، والسنّة الذين يملكون الغلبة العددية.
في غياب الإحصاءات الحديثة والدقيقة، يقدّر عدد سكان لبنان حالياً بقرابة 5.5 ملايين نسمة: نحو 60% مسلمون ودروز، ونحو 40% مسيحيون. ولأن الطائفتين الشيعية والسنية متقاربتان جداً عددياً، فهذا يعني أن تعداد كل منهما يقارب الـ 1.5 مليون نسمة.
ولكن، واقعياً، في ظل فشل أي خطة لإعادة النازحين، يمكن إضافة نحو 2.5 مليون نازح سوري (حتى الآن) ونحو 0.5 مليون نازح فلسطيني (حتى الآن أيضاً؟)، أي 3 ملايين نسمة، هم في الغالب ينتمون إلى الطائفة السنّية.
أي إن التوازن الديموغرافي للسكان، من لبنانيين وغير لبنانيين، في بلدٍ يقوم على أرجوحة طوائفية دائمة الاهتزاز، هو على أرض الواقع: 4.5 ملايين سنّي، مقابل 4 ملايين نسمة من الشيعة والمسيحيين والدروز معاً.
وهذا الخلل يهدّد بتصادمٍ حتمي بين قوتين إحداهما تمتلكان الأمن السياسة والأخرى تمتلك الديموغرافيا.
كأنّ هذه المعادلة هي الترجمة الجديدة لمقولة جورج نقاش الشهيرة: Deux négations ne font pas une nation (سلبيتان لا تصنعان أمّة). ولذلك، على اللبنانيين الغارقين اليوم في شؤون كثيرة أن يستعدوا لهذا الاستحقاق بكثير من الواقعية وعدم التهوُّر، لئلّا يستلزم ذلك تلزيماً جديداً للبلد.