IMLebanon

قوة الأسواق والضوابط

 

من يتذكر منتصف 2007 حيث كان الاقتصاد العالمي ينمو والتجارة تزدهر والمصارف تعمل بفعالية بفضل ثقة المواطن والشركة.  كانت الاستثمارات تحصل في كل بقاع الأرض والشركات الدولية تنوع أعمالها وتواجه المخاطر.  كان هنالك دور ايجابي كبير للصين وروسيا والوحدة الأوروبية ولبريطانيا تحديدا، جميعها تصب في خدمة النمو والتنمية.  كان النظام الاقتصادي الحر في أفضل أيامه والجميع يتسابق لاعتماده.  ماذا حل بالعالم حيث انقلبت الأوضاع رأسا على عقب ليس بسبب حرب أوكرانيا بل قبلها؟  هل كانت السياسات الخاطئة التي أعتمدت في كل الدول هي السبب؟  أما حرب غزة فمساوئها الدولية ستكبر ليس فقط بسبب الدمار المباشر بل بسبب تأثيرها الكبير على التجارة الدولية وبالتالي على أسعار النقل ومؤشر التضخم.

ثلاث أزمات كبرى تؤثر على العالم.  الأزمة المالية تغيب وتعود وهنالك مراجعة دولية للمبادئ التي اعتمدت، منها أن الأسواق هي دائما على حق وأن معايير التبادل ترتكز على الأخلاق وأننا نعيش اليوم في فترة جديدة مختلفة كليا عن الماضي.  طبعا هذه كلها تمنيات أكثر منها تجارب ووقائع.  يجب اعادة المبادئ القيمة الى الأسواق التي تعمل بفضل تعب المواطن ورغبته في تأمين عيش أفضل.  أما أزمة المناخ فحية معنا وبيننا وأن سنة 2023 كانت الأكثر حرارة في التاريخ.  مؤلم مشاهدة الفياضانات والزلازل في كل الدول حيث يذهب ضحيتها الأبرياء والفقراء أولا.  تخفيف التلوث حتمي اذا أردنا العيش في مناخ نظيف يساعدنا صحيا ويرفع مستوى نوعية الحياة.  تبقى أزمة الكوفيد التي غيرت هيكلية الاقتصاد الدولي بدأ من جغرافيا سلاسل الامداد الى مؤشرات الصحة وثم التضخم.  أظهرت في نفس الوقت تضامنا دوليا للمواجهة لم نشهده في السابق.

كل المجتمعات تميز بين القيمة والقيم.  من القيم هنالك النزاهة والايمان والعدل والمنطق والنظافة والمسؤولية وغيرها.  تختلف أهمية تلك القيم بين مجتمع وآخر تبعا للثقافة والتاريخ والتربية والتعليم وغيرها.  أما القيمة فترتبط بسلعة أو خدمة معينة حيث يجري تقييمها موضوعيا تبعا لتكلفة الانتاج ومدته وصعوبته ونوعية العمالة والوظائف المطلوبة كما لدور السلعة في النمو الاقتصادي.  قيمة السلعة أو الخدمة يمكن أن تكون أيضا شخصية أي مرتبطة بحاجة الانسان لها ولتأثره بها ورغبته في الحصول عليها.  فالقيمة الموضوعية يمكن أن تختلف كثيرا عن القيمة الشخصية، وهذا معروف جدا خاصة في الفنون حيث فعالية الأسواق محدودة.

هل هنالك فارق بين القيمة والسعر؟  من المفروض أن يتساوى السعر بالقيمة لكن هذا لا يحصل عموما.  ما هي قيمة أعمال الممرضين في المستشفيات وهل تساوي ما يتقاضون من أجور ومنافع؟  طبعا لا، فقيمة أعمالهم كبيرة وأظهرتها عالميا أزمة الكورونا، لكن السعر الذي يتقاضون هو ضئيل وظالم لهم وللمجتمع.  ما هي قيمة خدمات التعليم وهل يتقاضى المعلمون من أجور ومنافع ما يساوي ذلك؟  حتما لا اذ أن قيمة الخدمات التعليمية كبيرة وتؤثر على مستقبل المجتمعات بينما أجور المعلمين ضئيلة نسبة للجهود التي يقومون بها وللنتائج.

هنالك من يؤمن بقوة الأسواق ويقبل بنتائجها أيا تكن.  قوة الأسواق هي كغيرها من العوامل التي تحرك النتائج العامة في المجتمعات في السلع والخدمات.  قوة الأسواق ليست عقيدة يجب قبولها أو رفضها، وبالتالي يجب وضع الأطر المناسبة لعملها.  لا يمكن ترك كل القرارات للأسواق التي يمكن أن تضر بالاقتصاد العام وبالمصالح القطاعية وحتى بالأخلاق.  حرية الأسواق مهمة وضرورية ضمن ضوابط تحد من تأثيراتها السلبية على النمو والتنمية.  فالأسواق تحدد النتائج الاقتصادية، لكنها لا تهتم للتأثيرات الانسانية والاجتماعية لتلك النتائج وبالتالي هنالك دور هام للقطاع العام يجب أن يقوم به.  تقوم الأسواق بواجباتها، وعندما لا يحصل ذلك تقع الأزمات في كل القطاعات منها المالية.

ماذا كانت نتائج ترك الأسواق تعمل من دون ضوابط خلال عقود طويلة ماضية في كل الدول وأهمها الاقتصادات الناضجة كالولايات المتحدة الأميركية؟

أولا: حصول أزمات اقتصادية مالية ومصرفية دورية ضربت النمو وأضرت بالفقراء وسببت العديد من الحروب التي بنيت على الظلم في الاقتصاد.  فالأزمات المصرفية تضرب عموما سلامة الودائع وتقلق المواطن والشركة.  تضرب الأزمات أيضا استمرارية القروض الضرورية لتمويل الاستثمارات وبالتالي تحقيق النمو.

ثانيا:  تشرذم النظام الاقتصادي العالمي ليس فقط بسبب الحروب وانما بسبب القرارات الخاطئة التي اتخذت من قبل الحكومات وأدت لاحقا الى سيطرة المتطرفين على الحكم في العديد من الدول.  خروج بريطانيا من الوحدة الأوروبية تم بقرار شعبي، لكن الأكثرية تعي اليوم أن القرار كان خاطئا وأن الرجوع الى الوراء ليس ممكنا بل بالتأكيد ليس سهلا.  هذا الخروج البريطاني أضر بالوحدة الأوروبية وببريطانيا نفسها.

ثالثا:  توسع مخاطر الأسواق المالية والتهور في الاستثمارات مما سبب افلاسات كبرى في المصارف والمؤسسات المالية والشركات التجارية.  ارتفعت ديون الشركات كما المخاطر وبالتالي صعب تسديد هذه الديون وفوائدها.  انخفضت ثقة المواطن والشركة بادارات الدول بسبب السياسات الخاطئة كما الفساد الكبير المستشري في القطاعات العامة.  نسيت ادارات الدول قيمها المعلنة وأسأت الى مواطنيها في تقديم الخدمات الاجتماعية وتمويلها.  ضعف الثقة أعاق ويعيق النمو وبالتالي يمنع عودة التنمية الى كل بقاع الأرض.

ما الذي يجب تحقيقه لعودة الاستقرار الى الاقتصاد العالمي؟  يجب اعادة التوازن الى العلاقة بين المصارف والأسواق وهذا لن يتم قبل عودة الثقة والممارسة الصحيحة.  يجب اعادة التوازن الى العلاقة بين الأسواق والقطاع العام، اذ لكل قطاع دوره في خدمة الاقتصاد.  يجب أيضا اعادة التوازن الى العلاقة بين رأس المال الاقتصادي ورأس المال الاجتماعي، أي عمليا عودة القيم الى المجتمعات أي الى القطاعين العام والخاص وهذا صعب وضروري في نفس الوقت.