دقّ حاكم المصرف المركزي رياض سلامة ناقوس الخطر محذراً القوى السياسية من أخطار مالية داهمة بفعل استمرار التصعيد السياسي ودخول البلاد في أزمة وطنية ودستورية شائكة.
دفعت الأخطار بسلامة للقيام بهندسة مالية غير اعتيادية واستثنائية، ولكنها مكلفة وتستند إلى:
ـ استبدال مصرف لبنان، بالتوافق مع وزارة المال، سندات دين بالليرة اللبنانية لديه بسندات دين بالعملات الأجنبية بقيمة ملياري دولار (مليار دولار بفائدة 6.85 في المئة، 500 مليون دولار بفائدة 6.4 في المئة، 500 مليون دولار بفائدة 6.25 في المئة).
ـ شراء المصرف المركزي من المصارف سندات خزينة بالليرة اللبنانية بقيمتها الإسمية وباستحقاقات تقل عن 12 سنة مع فوائدها غير المستحقة (تراوح بين 7.08 في المئة و8.74 في المئة سنوياً) مقابل بيعها سندات دين بالـدولار لديه (يوروبوندز، شهادات إيداع) على أن تدفع المصارف قيمة هذه السندات من أموال خارجية (حوالي ملياري دولار) أو داخلية.
تقارب القيمة الإجمالية لعمليات الشراء 11325 مليار ليرة (7.5 مليار دولار) مقابل بيع سندات يوروبوندز بقيمة ملياري دولار وشهادات إيداع بقيمة 5.5 مليار دولار وبفائدة 7 المئة.
تتيح هذه العمليات لكل من مصرف لبنان والقطاع المصرفي تحقيق مداخيل استثنائية وفورية بالليرة اللبنانية تقـارب 3375 مليار ليـرة لكل منهما (2.250 مليار دولار) ناتجة عن مقاسمة قيمة الفوائد غير المستحقة والبالغة 6750 مليار ليرة (تشكل 60 في المئة من إجمالي القيمة الإسمية للسندات).
يستطيع مصرف لبنان تغطية المداخيل الاستثنائية للمصارف، من دون تحميل الخزينة العامة أعباء إضافية، من خلال الأرباح المحققة لديه من فروق تسعير الذهب البالغة 9700 مليار ليرة (فروق القطع).
وتعتبر الهندسة المالية ضرورية في ظل الظروف السياسية والمالية الحالية للأسباب التالية:
ـ تراجع مداخيل الدولة بالعملات الأجنبية في السنوات الماضية نتيجة تراجع تحويلات المغتربين من 7.5 مليار دولار إلى أقل من 7 مليارات دولار، وتقلص الاستثمارات الأجنبية المباشرة في السنوات الأخيرة من 4.9 مليار دولار الى 2.7 مليار دولار، وحجم الصادرات من 4.2 مليار دولار الى أقل من 2.7 مليار دولار، واتساع عجز الميزان التجاري، وتحوّل ميزان المدفوعات من فائض يقارب 3.3 مليار دولار الى عجز يفوق 3.2 مليار دولار، إضافة إلى تراجع نمو الودائع المصرفية من 12 في المئة إلى أقل من 5 في المئة.
ـ استنزاف قوي لاحتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية نتيجة تغطيته لعمليات استيراد الدولة واستحقاقاتها بالعملات الأجنبية والتحويلات في سوق القطع من الليرة الى الدولار.
تعتبر الهندسة المالية ضرورية لأنها تعزز احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية التي ارتفعت الى مستويات قياسية من 33.2 مليار دولار في حزيران 2016 إلى 40.7 مليار دولار في آب. كما أنها تحافظ على الاستقرار المالي والاجتماعي، وتطمئن الاسواق والمستثمرين والمودعين، وتساعد الحكومة على مواجهة استحقاقاتها بالعملات الأجنبية، لاسيما أن مؤشرات المالية العامة سجلت تدهوراً في الفترة الاخيرة، إذ اتخذ العجز منحى تصاعدياً وأصبح يقارب 8.5 في المئة من الناتج المحلي ووصل الدين العام الى 75 مليار دولار مشكلاً 140 في المئة من الناتج المحلي، ما ينذر بتخفيض وكالات التصنيف الدولية تقييم الدولة السيادي وانعكاسها على تصنيف القطاع المصرفي.
ـ دعم ميزانيات المصارف وتعزيز رساميلها الخاصة والمؤونات التي يجب تكوينها تلبية لمتطلبات المعيار المحاسبي الجديد الذي يُعرف بالمعيار الدولي للتقارير المالية رقم 9 أو IFRS9 المتعلّق بتصنيف وقياس الموجودات المالية.
يعتبر المعيار الجديد الذي يبدأ تنفيذه في العام 2018، من أهم التحدّيات التي ستواجه المصارف في المرحلة المقبلة لأنه معقّد ويتطلب زيادة لرساميلها الخاصة، ويحدّد إدارة الاصول المالية والتدفقات المالية لهذه الأصول، والمؤونات التي يجب تكوينها وفقاً للخسائر الائتمانية المتوقعة (القروض والأدوات المالية).
في هذا السياق، أصدر مصرف لبنان التعميم رقم 428 الذي يفرض على المصارف تكوين مؤونات بالليرة اللبنانية تحتسب ضمن الأموال الخاصة بما يوازي قيمة الفائض الناتج عن عمليات بيع أدوات مالية سيادية بالليرة اللبنانية وشراء، تلازماً، أدوات مالية بالعملات الأجنبية وتخضع قيمة الفائض من العمليات إلى ضريبة الأرباح.
ـ تخفيف كلفة المديونية العامة إذ تقوم الهندسة المالية باستبدال دين سيادي بالليرة اللبنانية مرتفع الكلفة بدين سيادي بالعملات الأجنبية بكلفة أقل ما ينعكس وفراً في خدمة الدين العام ما بين 40 ـ 50 مليون دولار سنوياً.
في المقابل، تتضمّن الهندسة المالية السلبيات التالية:
ـ كلفة مرتفعة تقارب 2.250 مليار دولار يستفيد منها القطاع المصرفي الذي حقّق في العام الماضي أرباحاً تقارب 1.8 مليار دولار (11 في المئة من رساميله الخاصة)، لاسيما أن عدداً كبيراً منها لديه القدرة على زيادة رساميله الخاصة من دون العودة الى الهندسة المالية، إذ تشير نتائج بعض المصارف الى وجود فوائض لديها تفوق المؤونات المفروضة وفق المعيار IFRS9 .
ـ إضعاف سيولة المصارف بالعملات الأجنبية وتعزيزها بالليرة اللبنانية.
ـ إعطاء المصارف أرباحاً إضافية ناتجة من مداخيل استثنائية وليس من نشاطها الاقتصادي ما ينعكس على مستوى نتائجها في السنوات المقبلة.
ـ خلق مصرف لبنان نقداً بالعملة المحلية لتعزيز أرباح المصارف ومؤوناتها وليس للإنفاق العام المنتج أو لتحفيز النمو.
هذه الهندسة المالية التي تعتبر ضرورة في هذه المرحلة، لجأ اليها حاكم مصرف لبنان، بعدما استنفذ جميع الوسائل لتجنيب البلد الانهيار النقدي، لكن كلفتها جاءت باهظة. هي رسالة تحذيرية من الحاكم، الذي استطاع إبان الأزمات التي مرّ بها لبنان حماية الاستقرار النقدي والمالي، للمسؤولين، ودليل على الاقتراب من الخط الأحمر المالي ومؤشر للمنزلقات الخطيرة على المستوى الاجتماعي والمالي، التي تهدّد الاستقرار في المرحلة المقبلة، كي يتداركوا الأمر لإيجاد حلول للأزمات السياسية والدستورية التي يعيشها البلد.
خبير اقتصادي ومالي