Site icon IMLebanon

الحوافز المادية لا تكفي

 

 

 

حكم الدولة معقد لأن الانسان معقد، وبالتالي تحصل مشاكل عديدة بسبب هذه العلاقة الدقيقة المتغيرة والمتجددة دائما.  ارتكزت النظريات الاقتصادية الأولى على أهمية المصلحة الشخصية للوصول الى هدف جيد للمجتمع.  لا ننسى أبدا ما كتبه مؤسس العلوم الاقتصادية «أدام سميث» في كتابه «ثروات الأمم» ان قيام كل شخص بتحقيق مصالحه الاقتصادية ضمن كفاءته ودوره سيؤدي الى تحقيق الازدهار لكل المجتمع ولكل الدولة. نعلم جميعا أن الأسواق التي تنتج عن قيام الجميع بتحقيق مصالحهم الشخصية لا تكون دائما في مصلحة الخير العام.

انتقد العديد نظرية سميث التي لا تترك أي دور خيري أو نفسي أو ثقافي للانسان ضمن دوره الكامل في المجتمع.  للانسان دور مادي يقوم به دون تردد مركزا على انتاج الأفضل والأثمن.  لم يهمل سميث دور الأخلاق في تأدية الواجب مما وضع حدودا لعمل الانسان الذي يبقى الانتاج فقط محصورا ضمن الكفاءة الشخصية.  كل انسان يركز عمله على ما يعرف، وبالتالي تتفاعل كل هذه الخيرات لتنتج اقتصادا زاهرا يرضي الجميع.  من أكثر المنتقدين لنظريات سميث التي تبقى حية حتى اليوم وان بأسماء مختلفة هم علماء الاجتماع الذين يركزون على دور الانسان النفسي الذي ربما يفوق في أهميته الدور الاقتصادي الانتاجي.

 

يتحرك الانسان عندما تكون هنالك دوافع أو حوافز مادية يحصل عليها من جراء التحرك، لكن الحوافز المادية لا تكفي خاصة اذا أهملت العوامل النفسية التي ربما تكون أهم أحيانا من العوامل المادية. لذا يقول بعض الاقتصاديين ومنهم «سامويل بولز» أن هنالك دور للفضيلة وللأعمال الفاضلة في العلوم كما في الممارسة الاقتصادية الدولية.  كي تستطيع أي حكومة في العالم النجاح في دورها، عليها أن تدرس كيفية تجاوب المواطن مع القرارات التي تتخذها. هذا التجاوب يغطي كل الميادين وليس الاقتصادية فقط، أي المواضيع القانونية والادارية والاجتماعية وغيرها. هنالك أمثلة عدة تسعى لتفسير عدم تجاوب الانسان مع الحوافز المادية، مما يلفت النظر الى حدودها العملية والواقعية.

 

في بعض المدن وهذه حقيقة، تأخر الأهل دوريا في استلام أولادهم من المدرسة في الساعة المتفق عليها، مما ازعج ادارة المدرسة والأساتذة والموظفين.  بعض المدارس قررت وضع غرامة على الأهل المتأخرين تبعا لمدة التأخير. ماذا كانت النتيجة، ازداد تأخر الأهل عن استلام أولادهم ودفعوا كل الغرامات المستحقة. كيف يمكن تفسير ذلك؟  في عالم سميث، هذا سيىء وهنالك بعض الجنون أو التحدي للقرارات والقوانين.  لكن الحقيقة غير ذلك. وضع غرامة على التأخير أعطى انطباعا للأهل بأن التأخير مقبول ومسموح به اذا سدد الأهل الغرامات، وهذا ما فعلوا.  فالحوافز المادية لا تكفي وحدها لتغيير تصرفات الانسان الذي يمكن أن يتعاطى معها بطرق مختلفة.  في مستشفيات النروج وضعت غرامات مالية على كل من يبقى في غرفته بعد المدة المقررة سابقا كي تستطيع المستشفيات خدمة عدد أكبر من المرضى.  ماذا كانت النتيجة؟ تأخر عدد أكبر من المرضى في ترك غرفهم، وبالتالي دفعوا ثمنها عبر الغرامات الموضوعة.

هنالك أمثلة متعددة مشابهة ومنها ما حصل في جهاز الدفاع المدني في مدينة بوسطن حيث كان في الجهاز أفضل الاطفائيين الذين يقومون بأعمالهم على أفضل وجه.  أتوا في الليل وفي عطلة نهاية الأسبوع وخلال كافة العطل لتأدية الواجب.  كانوا مضرب مثل في التفاني والجهد والكرم في سبيل الخير العام.  ماذا حصل؟  قررت ادارة المدينة اعطاء حافز مالي لكل من يلبي دعوة الواجب خارج الدوام الرسمي.  فكرة جيدة؟  لم تكن كذلك اذ أصبح الاطفائيون يكررون الاعتذار عن القيام بالواجب خارج الدوام الرسمي لأتهم فهموا من الحوافز عدم تقدير لواجبهم الانساني النابع من كرمهم وأخلاقهم وحسن تربيتهم وبالتالي غضبوا.  وضع سعر لكل شيء أو عمل أو مهمة أو واجب ليس بالضرورة فكرة جيدة، وبالتالي الواجب الانساني يمكن أن يكون أهم بكثير من المادة.  كذلك الأمر يسري على الشركات التي تضع غرامات مالية على كل موظف يتأخر عن بدء العمل ضمن الدوام الرسمي.  ماذا حصل؟  ازداد التأخير عموما لأن الموظف أو بعضهم فهموا أن التأخير مسموح شرط أن يسدد الموظف الثمن أي يشتري المخالفة عبر الغرامة.  انعكس ذلك سلبا على انتاجية هذه الشركات ونتائجها المالية.

من النظريات المختلفة التي لها أرضية في الفلسفة هي أن معاملة الانسان بأفضل القواعد الأخلاقية والكلامية والتنويه تعطي أحيانا نتائج أفضل بكثير من الحوافز المالية. فاعتماد الفلسفة الى جانب نظريات سميث تبعا للوقائع والأوضاع والزمن يعطي أفضل النتائج للمجتمع. لذا كتب الاقتصادي الكبير «توماس شيلينغ» الحائز على جائزة نوبل أنه يجب على العلوم الاقتصادية أن تتوسع أكثر أي أن تدخل اليها ما يفسر العلاقات الاجتماعية وتفاعلها فيما بينها.  الحوافز المادية جيدة ولا شك انه يمكن أن تكون فاعلة لكن ليس لوحدها.  في الوقائع القانونية، كلما كانت العقود قاسية فيما يخص عدم الالتزام بها، كلما زادت المخالفات والتحديات لأن بعض المتعاقدين يعتبرها مهينة ولا تحترم مصداقيته ونزاهته. تعامله العقود منذ البداية وكأنه مجرم أو لص وبالتالي وضعت الايطار الظالم لضبط تحركاته.

هنالك مشاكل عالمية تشغل بال الجميع كأوضاع المناخ والهجرة غير الشرعية والأمن والزيادات السكانية والأمراض المنتشرة ورقابة التكنولوجيا والتي لا يمكن حلها فقط عبر قيام كل انسان بمصالحه ورغباته.  حلها لا يمكن أن يتم عبر الحوافز المادية فقط، بل يجب أن تكون هنالك معايير مبنية على نفسية الانسان ورغباته في القيام بأعمال الخير والمساعدة لمصلحة المجتمع.  محتوى القوانين والعقود يمكن أن يكون جيدا تقنيا، لكنها تفشل لأنها لا تراعي عقلية الانسان وخاصة نفسيته.