Site icon IMLebanon

العقوبات المالية حصيلة السياسة الخارجية

العقوبات المالية التي فرضتها الولايات المتحدة على المصارف اللبنانية تريد أن تستهدف بها حزب لله تحديداً وهذا ما أكده أحد أعضاء الوفد اللبناني الذي يزور واشنطن بل أن العقوبات هي موجهة ضد دول ومصارف ومؤسسات مالية وأفراد لديهم ملفات أمنية وقضائية في الولايات المتحدة. ولتأكيد هذا الرأي نتذكر ما نطق به رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو في مقابلة صحفية أثناء انعقاد مؤتمر دافوس في سويسرا، بأنّ هناك مجموعة أمور أتّفق عليها مع الرئيس أوباما على ضرورة القيام بها، بعد توقيع الاتفاق النووي الايراني. الأمر الأوّل هو إبقاء الايرانيين تحت المراقبة الشديدة، بغية التأكّد من التزامهم بالاتفاق النووي، والأمر الثاني هو وضع حدّ لاستهداف الجمهورية الاسلامية لحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، وأوّلهم إسرائيل، والأمر الثالث هو البدء بتفكيك الشبكات الأمنية والعسكرية والمالية التي زرعتها ايران، ووزعتها عبر حزب الله، في أرجاء العالم.

قد يبدو الموقف أعلاه موقفاً متوقّعاً من قبل نتنياهو وحكومة العدو الصهيوني، ولكنّ لائحة التشريعات الأميركية الأخيرة أثبتت وبشكل حاسم أنّ مفاعيل كلامه أضحت في مرحلة التطبيق، في حين يعمل اللوبي الاسرائيلي في واشنطن دون كلل وملل بغية الضغط على الأميركيين لتوجيه سهام عقوباتهم على المشروع الايراني، يبدو أنّ جائزة الترضية للحلفاء باتت تتمثّل بتعامل أميركي مختلف مع حزب الله، عبر الضغط باتجاه إغلاق طرق تمويله الغير شرعية.

ولو عدنا بالذاكرة مع بداية الأزمة السورية، فنتذكر بأن وزارة الخزانة الأميركية قامت بفرض عقوبات على شخصيات سورية، ليأتي التعميم من مصرف لبنان لجميع المصارف اللبنانية بعدم التعامل مع هذه الأسماء وعدم فتح حسابات لها، واليوم ثمّة قرار أميركي واضح يقضي بتجفيف منابع تمويل حزب الله. هذا القرار ينصّ بشكل صريح على منع شبكات حزب الله اللوجستية حول العالم من العمل بحرية، بغية تقليص قدرتها على تمويل أنشطة الحزب المحلية والعالمية، الأمر الذي يتخوّف منه عديد من المتابعين للقطاع المالي في لبنان حيث يعمل مصرف لبنان على إنشاء خطّة اقتصادية واضحة المعالم تلاقي الخطط النقدية التي يتّبعها المصرف والتي أضحت واجباً، لا بل ضرورة، من أجل حماية الليرة والاقتصاد الوطني.

من هنا سوف تكثف زيارات المسؤولين اللبنانيين الى واشنطن للاجتماع بكبار المسؤولين لدى الخزانة الاميركية للوقوف عند آرائهم. كما إنّ كلّ هذه الزيارات المتوقعة وطرق أبواب المؤسسات الحكومية الأميركية وباقي دوائر القرار، تقع جميعها تحت عنوان واحد هو شرح تقيّد لبنان بالمعايير الدولية واستمرارية تطبيق القرارات الدولية في ما خصّ مشاريع القوانين التي أقرّتها الدولة اللبنانية حول مكافحة تبييض الأموال أو مكافحة التهرب الضريبي وتطبيق القرارات الدولية في ما خصّ تطبيق معايير السلامة الضريبية ومكافحة الجرائم المالية وتمويل الإرهاب، وإبلاغ الأميركيين رسالة واضحة، مفادها أن استهداف القطاع المصرفي في لبنان في هذه المرحلة التي تمرّ فيها البلاد والمنطقة، يهدد الاقتصاد اللبناني برمته، وبالتالي يعرّض لبنان لخطر كبير قد يودي بالجمهورية برمتها خاصة اذا بدأت المؤسسات الدولية في تخفيض التصنيف الائتماني للمصارف اللبنانية.

وبالتالي اصبح كل مصرف في لبنان، مجبراً على التبليغ مباشرة، من دون المرور بالمؤسسات السيادية اللبنانية، ومنها المصرف المركزي، اذ يفرض قانون «فاتكا» لائحة عقوبات على أي مصرف لا يلتزم ببنوده، تصل الى حرمانه اعتماد جهة مصرفية أو مالية أميركية لتقوم بدور تمثيله او المراسلة او حتى فتح حساب مصرفي له لدى المصارف الاميركية، وبالتالي يصبح غير قادر على اجراء المقاصة بالدولار الأميركي عبر المصرف المركزي في الولايات المتحدة. وعملية التبليغ هذه لا تشمل فقط اطلاع الخزانة الاميركية على أرصدة حسابات العملاء المستهدفين بالقانون المذكور، بل تتعداها الى تقديم كشف لها عن حركتها أيضاً، ومجمل البيانات الشخصية المقدمة من قبل العميل الى المصرف، ما يعني الحصول على أرشيف معلوماتي كامل لمصلحة قسم مكافحة الارهاب المالي في الخزانة الاميركية، يتضمن جردة بأملاكه المنقولة وغير المنقولة. والمعروف ان قانون «فاتكا» وضع لمكافحة التهرب الضريبي من قبل المواطنين الأميركيين ويؤدي تطبيقه الى جعل فئة من عملاء المصارف اللبنانية مكشوفة امام السلطات الاميركية، في الوقت الذي يمنع فيه القانون اللبناني خرق السرية المصرفية.

لقد أصبح لوزارة الخزانة الاميركية السلطة لمساءلة كل مصرف لبناني، وباتت هذه المصارف تخضع لأهوائها بعدما فقدت بموجب تطبيقات قانون «فاتكا» امتياز الحماية من السلطات السيادية اللبنانية، أكان المصرف المركزي او السلطات القضائية او الحكومية. وأكثر من ذلك، فإن القطاع المصرفي في لبنان وصلته رسالة أميركية واضحة حول الطريقة التي ستتعامل بها الادارة مع اي مصرف في العالم لا يلتزم بالقوانين المعممة من خلالها. فمعلوم أن سويسرا كانت تعدُّ نموذجاً لقانون السرية المصرفية في العالم؛ لكن تجربة مصارفها مع وزارة الخزانة الاميركية، قادتها الى التخلي عن سريتها المصرفية. والمثل الحاضر في أذهان مصارف لبنان اليوم هو ما حصل مع مصرف «يو بي اس» السويسري، بعد رفضه طلباً أميركياً بالتبليغ عن حسابات خمسة آلاف مواطن اميركي مودعة لديه. وكان المصرف قد تحصن في تعليل رفضه بموجبات التزامه بالقانون السويسري، لكنّ وزارة الخزانة الاميركية هددته بمنعه من التعامل مع اي جهة على الاراضي الاميركية. وحينما أبدى المصرف ثباتاً على موقفه، ورفع قضية خلافه مع وزارة الخزانة الاميركية الى المحاكم السويسرية، اصدر مكتب التحقيقات الفدرالي الأميركي، عشرة آلاف مذكرة توقيف دولية بحق موظفي المصرف بتهمة تبييض الاموال، ما أجبر المصرف على الرضوخ للمطلب الاميركي، وتعديل القانون السويسري على نحو يلغي السرية المصرفية.

أما لبنان فما زال غارقاً في علاقته غير المستقرة بسبب قنواته الديبلوماسية المفقودة مع العالم الخارجي وأحد أسبابها منهجية وزير الخارجية جبران باسيل، ولا يبدو أنه بصدد لملمة أطرافه الممزقة أو داخله المنقسم. فليس هناك ما يشير إلى أن بوسع الحكومة حالياً تطبيق أي إصلاحات إقتصادية أو سياسية، بالإضافة إلى إنشقاق الحكومة على نفسها والذي يقارب عدد الأحزاب السياسية. لذلك ووسط مسيرة الحكم هذه المليئة بالثقوب والأخطاء التاريخية الديبلوماسية وثبات حزب الله على موقفه وتجاهله كل النداءات سواء من الداخل أو من الخارج، سوف تعلن الولايات المتحدة الأميركية عقوبات جديدة كنتيجة حتمية لفشل تطبيق القرارات الدولية والاصلاحات المطلوبة من قبل البنك الدولي.

لقد أصبح لبنان بلداً مهشّماً، تعصف به الصراعات دون أن تبدي الحكومة اللبنانية استعداداً يُذكر من أجل إصلاحات حقيقية بل دأبت الحكومة في المماطلة في بدء مشروع الإصلاح ومحاربة الفساد وقد أثارت هذه العملية المتأخرة حفيظة الشعب اللبناني ضد سيادة وشرعية الدولة ومكّنت الحكومة من  شقّ صفوف المعارضين ثم محاربتهم منفردين. المطلوب اليوم وضع منظومة حلّ تشمل المواقف الخارجية باتباع سياسة جديدة من العلاقات الدولية والداخلية مثل الوصول إلى وحدة وطنية جامعة تتفق على ادارة البلاد بديمقراطية وإشاعة الحرية وتحقيق الحكم الراشد بدءًا من انتخاب رئيس جمهورية يمثل كل اللبنانيين.

ولكن من المتوقع أن تأخذ الحكومة اللبنانية وقتاً طويلاً  لتظفر بأحد الحلين. إما أن تبدأ خطة إصلاح شاملة أو أن تنتظر ما أعلنت عنه  الخزينة الأميركية بأنها بدأت تنظر في إجراء حقبة من العقوبات التي ستكون مفروضة على المصارف اللبنانية. وليست العقوبات الاقتصادية وحدها هي العائق ولكن أيضاً عدم مقدرة لبنان على الوفاء بديونه الخارجية، وجزء منها لصالح نادي باريس ثم بنوك تجارية ومؤسسات دولية وإقليمية مختلفة. بذلك لن يكون لبنان مؤهلاً لجدولة ديونه إلا عند التزامه بطلب واشنطن وبعد الإيفاء بمتطلبات إصلاحية مبرمجة. لذلك يجب أن يتم الإصلاح عن طريق  الموازنة بين الحاجة إلى الإصلاح السياسي وبين المصالح الاستراتيجية، أما الآليات الكامنة وراء مأزق العقوبات هذه، فقد أثبتت الحكومة عجزها عن إجراء إصلاحات مهمة عبر الحوار أو المشاركة السياسية، ولذلك فهي قد خسرت الدعم الشعبي الداخلي قبل أن تخسر علاقاتها مع الولايات المتحدة!!.