يرزح الوضع المالي تحت عبء الوضع السياسي المتردّي وآخر حلقاته الفراغ الرئاسي الذي لا أفق زمنياً له، فضلاً عن غياب تشريع الضرورة وتعطيل عمل المؤسسات. وإذا كان الاتفاق البحري مع إسرائيل شكل بارقة أمل إقتصادية لكنّ مردوده العملي لن يبصر النور قبل سنوات، وأمام الدولة مبالغ هائلة لصرفها، فمن أين تأتي الموارد؟
سؤال يتجنّب السياسيون الإجابة عنه. يعرفون الحقيقة ويحرّفون وقائعها. يرفضون الدولار الجمركي وفرض المزيد من الضرائب ويطالبون بسدّ احتياجات الناس والموظفين. كمن يدفن رأسه في التراب، يظهر تعاطيهم . كلّ ذلك والعلاجات الضرورية لم توضع على سكّة الحلّ، فلا إصلاحات ولا خطة تعافٍ شافية وافية، والتأخير يضاعف الأزمة ويعمّق الفجوة المالية فيما خزينة الدولة تكاد تكون خالية من الإيرادات ما يستلزم وفق المصادر المالية المعنية معالجات جذرية قاسية لا بدّ منها ولو بعد حين.
وعلى طريقة من «هالك الى مالك» وتقاذف المسؤوليات والشعبوية تتمّ مقاربة القرارات المالية. بين الواقع المالي ومقاربات السياسيين هوّة شاسعة وتعمية، المقصود منها تجنّب تحمّل قرارات ضريبية قاسية غير شعبية كان يمكن لو أقرّت منذ ثلاث سنوات أي منذ بداية الأزمة، أن تقلّص حجم الخسارة وتحمي ما تبقّى من أموال الناس. لكنّ المكابرة مستمرّة وكذلك المزايدات.
في تعميم أصدرته أمس، طلبت رئاسة الحكومة من الدوائر المختصة في وزارة المالية الإلتزام بتطبيق أحكام المادة 111 من قانون الموازنة والتي نصّت على إعطاء زيادة قدرها شهران إضافيان على الراتب الأساسي الذي يتقاضاه الموظف في القطاع العام. المقصود من التعميم «إعادة دفع عجلة الإنتاج وتأمين حُسن سير المرافق العامة بانتظام واطّراد». لكنّ المشكلة الواقعة حكماً هي في أنّه لا مصادر مؤمّنة بعد في خزينة الدولة لصرف المبالغ المترتّبة لأن لا ايرادات تغطّي النفقات.
ثمة قول متعارف عليه «إنّ خزينة الدولة جيوب رعاياها»، وحين لا تتوفّر الإيرادات يصبح صرف الرواتب والنفقات الواجبة عملية بالغة الصعوبة وتجد الدولة نفسها أمام حلّين: إما فرض ضرائب جديدة على المواطنين أو أن يلجأ مصرف لبنان إلى طبع العملة باستمرار وارتفاع التضخم، وهو طبع لغاية اليوم 75 تريليون ليرة في السوق اللبنانية وهذا رقم باعتراف الإقتصاديين ضخم جداً.
وبالتالي يبقى خيار فرض الضرائب أفضل من تحمّل مسؤولية طبع الليرة بشكل متواصل ما يجعل سعر صرف الدولار في تصاعد مستمرّ ويصعّب تحديد سقفه. إذاً نحن أمام المرّ والأمرّ منه إمّا استمرار الإنفاق وارتفاع مستمرّ لسعر صرف الدولار أو فرض ضرائب جديدة لا تطول إلى قدر ما عامة الناس.
حين ارتفع سعر صرف الدولار في التسعينات تمّت المعالجة من خلال مبالغ ضخمة ومساعدات دولية ضخّت في المصارف. أدّى عامل الثقة دوره. مثل هذه المساعدات غير متوفرة والإصلاحات التي طلبها البنك الدولي لم تقرّ بعد ما يعني أنّ أيّ إجراء لن يؤتي أكله وسنكون في لبنان أمام أيام بالغة السواد وقد نصل إلى فترة يصعب معها تحديد سقف للدولار وتعجز الدولة عن سداد رواتب موظّفيها في القطاع العام ورواتب العسكريين وتأمين الخدمات الصحية والإجتماعية وهذه وحدها في حالة عجز متواصل.
لا يوافق المعنيّون أنّ العلاج يكون بتخفيض عدد موظفي القطاع العام. تعاني إدارة الضرائب من نسبة شغور تلامس 54 بالمئة. العدد الإجمالي لموظّفي القطاع العام لا يتعدّى العشرة آلاف موظف، بينما العدد الأكبر يكمن في السلك العسكري (120 ألفاً). رواتب العسكريين والمتقاعدين وامتيازاتهم وحدها تشكّل ميزانية ضخمة. فكيف الحال في ظل معلومات تفيد بانتساب ما يقارب الـ5000 عسكري خلال الأشهر الستة الماضية!
وما يجري بحثه في كواليس المعنيين بالشأن المالي في لبنان ينحصر في كيفية إيجاد سبل لتغطية النفقات ومن ضمن المعالجات المطروحة والتي سيكون اللجوء إليها حتمياً، رفع سعر الدولار الجمركي إلى 15 ألف ليرة تصاعدياً بدءاً من نهاية الشهر الجاري واعتماد أسعار صرف فعلية لاحتساب الرسوم والضرائب وهو ما ينظر إليه على أنهّ حاجة ماسة للخزينة لاستمرارية القطاع العام وتأمين الخدمات العامة.
الزيادات المقترحة
تقول مصادر واسعة الإطلاع إن آخر العلاج الكيّ بحيث سيتمّ اللجوء الى تطبيق سعر صيرفة لاستيفاء بعض الرسوم والضرائب بالتزامن مع تعديلات السياسات الضريبية التي وردت في موازنة 2022 التي أصبحت قيد التنفيذ. من ضمن الزيادات المقترحة: مضاعفة التنزيلات الضريبية بشكل كبير، توسيع الشطور لتعزيز العدالة الضريبية وعدم زيادة العبء الضريبي الذي ارتفع مع تدهور سعر الصرف على المداخيل بالعملة الوطنية فضلاً عن تخفيض الرسوم العقارية، وتخفيض القيمة التأجيرية. أما في ما يتعلق بالتخمينات العقارية فتؤخذ 50% فقط من القيم بالدولار قبل احتسابها على سعر صرف صيرفة.
على أن يكون الهدف منها مواكبة السياسات الضريبية التصحيحية التي لحظتها موازنة العام 2022 والتي رغم كلّ ما تضمّنته، لن تفي بالغرض لناحية رفد الخزينة بالواردات الضرورية علماً أنّ هذه الموازنة لحظت في بعض موادها نصوصاً تتماشى مع الوضع المستجدّ لفرق سعر الصرف والمداخيل على اختلافها ما يتناسب مع ايرادات الدولة المرتقبة وأتت بمواد توسعة الشطور في احتساب المعدلات الضريبية كما برفع التنزيلات العائلية وتلك المتعلقة برسم الانتقال والسكن.
والأهم والأخطر أن تقديرات الإنفاق لموازنة العام 2022 والتي حدّدت على أساس سعر صرف 15 ألفاً ستتضاعف ثلاث مرات في موازنة العام 2023 الجاري إعدادها، وبالتالي فإن سعر الصرف المحدّد بـ15 ألفاً لن يغطي العجز بل في ظلّه ستفقد الدولة قدرتها على صرف المترتبات المتوجّبة.
الوضع كارثيّ إلا في حال تعزّز عامل الثقة وهنا نتحدّث عن حلول سياسية قبل أن تكون اقتصادية ومعالجات مالية جذرية وليس تقطيع وقت، فهل يستوعب السياسيّون حجم الكارثة ويتم التفاهم على الإجراءات المنويّ اتّخاذها على قساوتها أم يفتح بازار المزايدات السياسية على مصراعيه؟