صفقات وسرقات وتسويف ومماطلة في إطلاق أي مشروع مثمر
منذ بدأ الحديث عن البطاقة التمويلية والسؤال المطروح، ما هي مصادر تمويل هذه البطاقة؟ الى أن اتضح مؤخراً أن جزءاً من هذا التمويل سوف يتم عبر قرض البنك الدولي الذي كان مخصصاً لتمويل خطة النقل المشترك لبيروت الكبرى. وهكذا وُضع المواطن اللبناني الفقير أمام خيارين: إما يموت جوعاً أو يموت على الطرقات في طوابير البنزين التي لا تقدم له الدولة اي بديل عنها. فهل تمت التضحية بخطة النقل التي كان يمكن ان تحقق تنمية مستدامة لحساب البطاقة التمويلية التي يتهمها كثر بأنها بطاقة انتخابية؟
الكلّ ينتظر البطاقة التمويلية علّها تكون خشبة الخلاص للفئات الأكثر عوزاً في لبنان وتحقق شبكة أمان اجتماعية، لبنان المنهار بأمس الحاجة إليها. ولكن ألا ينطبق على هذه البطاقة مقولة “من دهنو سقيلو”،أي ان ما يناله المواطن اللبناني بيدٍ يؤخذ منه باليد الأخرى عبر كلفة تنقّل بأعلى الأسعار يعجز، رغم البطاقة، عن تحمّل أعبائها؟
يشرح الناشط السياسي ورئيس جمعية TrainTrain د. كارلوس نفاع أن ما يتم تداوله اليوم عن تحويل مخصصات قرض البنك الدولي الموضوعة لخطة النقل من أجل تمويل البطاقة التمويلية الموعودة، هو في الواقع حديث عن جزء بسيط من خطة النقل لبيروت الكبرى يعرف باسم BRT او خط الباص السريع من طبرجا الى بيروت. والقرض بقيمة 295 مليون دولار مقسوم الى قسمين، الأول وتبلغ قيمته 225 مليون دولار هو قرض بفائدة تصل الى 5,2% والثاني 70 مليون دولارعلى شكل هبة، مشروطة بتشغيل 30% من السوريين من حملة بطاقة اللجوء في المشروع، وذلك كنوع من الدعم من البنك الدولي للدول التي تحتضن اللاجئين لمساعدة هؤلاء على الاندماج.
خطة فاشلة
ويقتضي هذا المشروع، وفق نفاع، “إنشاء جسر معلق يمتد من نهر الكلب الى طبرجا مخصص للباص السريع فقط مع بناء أبراج للسلالم والمصاعد ومحطات توقف، وقد قام بالدراسات مجلس الإنماء والإعمار والبنك الدولي وبعض المكاتب الهندسية”. “لقد سبق وقدمنا اعتراضنا على هذا المشروع الذي لا يقدم فائدة حقيقية للمواطنين ولا سيما أنه يقتصر على المسافة القائمة بين طبرجا وبيروت والتي اعتبرتها الدراسات الأكثر اكتظاظاً، كما أنه يساهم في المزيد من التشويه والتلوث للبيئة. وقد رفضت بلدية بيروت دخول الباص السريع إليها ما يجعل من المشروع خطوة ناقصة. ومن نقاط الضعف الكثيرة فيه أن الباصات السريعة عادة تتوقف كل كيلومتر ونصف، لكن هذا الباص وفق الدراسات التي اجريت يجب ان يتوقف كل 800 متر وبهذا لا يعود باصاً سريعاً. ويرافق إنشاء هذا الخط شراء 250 باصاً تقوم بنقل الركاب من مناطق كسروان والمتن اي المناطق الداخلية الى المحطات الساحلية. والغريب ان الدولة التي تشتري هذه الباصات توكل أمر تشغيلها لشركات خاصة. كل هذه العوامل مجتمعة تجعل من مشروع النقل هذا او خط الباص السريع مشروعاً خيالياً لا يمكن أن يحل مشكلة النقل في لبنان”.
ويضيف نفاع لقد تقدمنا بمخطط توجيهي للنقل العام في 30 آب 2019 ويعتمد بشكل كبير على سكك الحديد وبالطبع لم يبت فيه حتى اليوم. اما مشروع الباص السريع فقد تم إيقافه من قبل البنك الدولي نظراً للانهيار النقدي الحاصل في لبنان ولعدم قدرة القطاع الخاص على الاستثمار في الباصات، من هنا اقترحت الحكومة ان يتم تحويل القرض الى البطاقة التمويلية.
البطاقة التمولية استثمار خاسر
ويرى نفاع ان استعمال الأموال في البطاقة التمويلية هو استثمار خاسر لأنه غير قادر على تسديد قيمة القرض لاحقاً، فيما لو اتخذ قرار بصرف 295 مليوناً في خطة نقل متكاملة تعتمد من جهة على إحياء خط بيروت الساحلي للقطار للربط بين عكار والضنية وطرابلس وبيروت، عبر مد سكة وجلب قطارات تعمل على المازوت من خلال هبات ومن ثم وفي مرحلة ثانية وصل الخط بالجنوب، لكان المشروع ساعد على ربط كل المدن الساحلية ببعضها وحل أزمة السير المستفحلة على الاوتوسترادات الساحلية. ومن جهة أخرى كان يمكن أن تستخدم قيمة القرض لتفعيل خطة النقل المشترك عبر شبكة باصات حديثة ومتطورة.
ويقول كارلوس نفاع انه كان بالإمكان توزيع المبلغ على ثلاثة أقسام: قسم لشراء 1500 باص حديث، وآخر لشراء مازوت وقطع غيار لمدة خمس سنوات وثالث للإدارة والتشغيل. وبهذا تتوفر للبنان خطة نقل مشترك متكاملة موزعة على جميع المناطق من زحلة وطرابلس الى بيروت والجنوب، بحيث إذا وصل سعر صفيحة البنزين الى 500 ألف ليرة يكون لدى المواطن اللبناني بديل يؤمن شبكة أمان اقتصادية تتيح للعمال والموظفين وقوى الأمن الانتقال الى مراكز عملهم، وتأمين الانتاجية لتحريك العجلة الاقتصادية. ويمكن لمشروع كهذا امواله مؤمنة وموجودة يعمل تحت إدارة مصلحة النقل المشترك وسكك الحديد أن يؤمن شبكة وطنية عبر كل لبنان، تربط المناطق ببعضها ولا تقتصر فقط على بيروت الإدارية.
خطة طموحة لكن منطقية تحتاج الى إرادة وتصميم، لكن ما يحدث اليوم في لبنان يبدو معه وكأن الجميع استسلم ورفع يديه في انتظار ما سيكون. فالخطط كلها مؤجلة وكأن لبنان اليوم لا يزال قادراً على ترف الانتظار، فيما خطة متكاملة للنقل يجب العمل عليها اليوم قبل الغد في ظل الخنقة الضاغطة الناجمة عن أزمة البنزين، التي يرجّح أن تزداد وطأتها على المواطنين مع رفع الدعم نهائياً في أيلول.
تضارب مصالح
رئيس لجنة الأشغال والنقل النيابية النائب نزيه نجم يقول لـ”نداء الوطن”: “صراحة راحوا مصريات خطة النقل وصار لبنان مضطراً ان يشحد مصادر تمويل جديدة ليعيد إطلاق خطة هو في أمس الحاجة إليها”، خطة النقل كانت جاهزة، يؤكد نجم، “وأموالها موجودة بقرض من البنك الدولي لكن الظروف عاكستها مع استقالة حكومة الرئيس الحريري وبعدها مجيء حكومة الرئيس حسان دياب، وتمنّعها عن سداد الديون المستحقة ما جعل لبنان في وضع دقيق عالمياً وخفّض من تصنيفه، إضافة الى عدم إتيان الحكومة المذكورة بأي إنجاز يذكر وبعدها استقالت وعمدت الى تصريف الأعمال بحده الأدنى، ما وضع خطة النقل في الأدراج رغم حاجة البلد الماسة إليها”.
ويقول نجم: “لو كنت وزيراً للأشغال لكنت سعيت الى تنفيذ الخطة منذ سنتين لكن البلاد لا تدار بموظفين بل بأصحاب رؤية وأشخاص يملكون القرار”.
لكن حين نسأل النائب نجم لماذا لم تنفذ خطة النقل المقرّة منذ سنوات وما الذي كان يؤخرها على مر السنين؟ يجيب ان تضارب المصالح هو الذي يؤخر كل شيء في هذا البلد. يبدو رئيس لجنة الأشغال قرفاً من الوضع مثله مثل اي مواطن، يتحدث عن صفقات وسرقات وتسويف ومماطلة في إطلاق أي مشروع مثمر. وخطة النقل مثلها مثل تحسين وضع الكهرباء وإنشاء معامل للطاقة وغيرها من المشاريع التي يمكن ان تعود بالخير على الوطن والمواطن، لكنها تواجه بتضارب المصالح وتحكّم البعض بمفاصل الدولة…
حين نسأل النائب عن البطاقة التمويلية التي ستستفيد من أموال القرض المخصص للنقل المشترك يستعيد السؤال للتأكد من اسم البطاقة، وإذا ما كانت بطاقة تمويلية او انتخابية، لا سيما وان الأرقام لم تتوضح بعد والمبالغ المطلوبة قد ترتفع بارتفاع أعداد الشخاص المستفيدين منها. لا شك ان قرض 295 مليون دولار لن يكون وحده كافياً لتمويل البطاقة التي يحكى انها تحتاج ما بين 800 الى 900 مليون وقد يرتفع الرقم الى أعلى من ذلك. “وحده تشكيل حكومة يعيد وضع البلاد على السكة الصحيحة ويضبط سعر الدولار وبالتالي يستقر سعر البنزين والمازوت، ويصبح المواطن قادراً على تحمل تكلفتها مع وجود خطط واضحة سواء للنقل او غيره”، يقول نجم.
“أما كان أجدر بالحكومة اللبنانية أن تؤمن للبنانيين نقلاً مشتركاً يخفف عنهم أعباء النقل الباهظة وان تعطيهم صنارة بدل ان تؤمن لهم السمكة”؟ كارلوس نفاع يؤكد ان خطط النقل موجودة في الجوارير منذ 1996 وكان يتم إعادة دراستها وتجديدها كل بضع سنوات، واليوم يقول إنه الوقت المناسب لإخراج اية خطة من الأدراج والبدء بتنفيذها لتساهم في التخفيف من خطر الإنهيار وإعادة تحريك الاقتصاد. “يمكننا استثمار المبلغ المخصص لخطة النقل او طريق الباص السريع في إنشاء شبكة نقل قادرة أن تخدمنا أقله خمس سنوات ولسنا بحاجة الى استملاك أراض ودفع مبالغ مهولة”، كما يقول.
دمج الفانات في خطة متكاملة
اليوم ثمة 6000 فان مزودة بنمر عمومية شرعية و 7000 فان تعمل بلا نمر، ولكن معظم سائقي هذه الفانات، وهي في حالة يرثى لها، لم يعودوا قادرين على تشغيل فاناتهم وصيانتها. هؤلاء، يشرح نفاع، يمكن دمجهم في خطة النقل المقترحة اذ يمكن إضافتهم الى الـ 1500 باص التي يقترح شراؤها بحيث تنضم اليها وتكون داعمة لها، فتتشارك كلها في تطبيق هاتفي عملي وعلمي يؤمن الأمان والراحة وتكون هذه الباصات مزودة بتكييف واتصال بالإنترنت، لها خطة سير ومواعيد ومحطات محددة بحيث تصبح بديلاً ممتازاً عن استخدام السيارة على معظم مساحة لبنان. وهكذا يكون للبنان باصات بمستويات مختلفة لكنها تتحلى جميعها بمواصفات تليق بالمواطن اللبناني وتؤمن له انتقالاً آمنا، اقتصادياً ومريحاً.
فهل يتحقق هذا الحلم ويصبح للبنان شبكة نقل مشترك محترمة وفاعلة كما في كل بلدان العالم؟ وهل تتخلى الأحزاب على اختلافها عن امتيازاتها في النقل لصالح نقل مشترك تديره الدولة؟ ام ان تضارب المصالح والتنافس على الفساد يعيق اي خطة للتنمية في لبنان؟