حالُ الإفلاس وانهيار الدولة لن تمنع الكوارث المناخية هذا الصيف، بل يمكن أن تزيدها. وبما أن تغيّر المناخ في العالم ولبنان أصبح واقعاً، وأن ارتفاع درجات الحرارة لم يعد تكهّناً، فإن الحرائق واقعة… وإلى ازدياد، فيما الإفلاس يكبّل الإدارات الرسمية والمحلية. الرهان الوحيد على البلديات بما بقي لها من موازنات، وبمساعدة متطوّعين، لاتخاذ إجراءات احترازية تقلّل من خطر الكوارث القادمة حتماً
استناداً إلى السنوات السابقة، تُسجّل أعلى نسبة من حرائق الأحراج عادة في أيلول و«تشارين»، والثابت أن الوقت الأنسب لبدء عملية الوقاية من الحرائق بالتشحيل والتقشيش يبدأ في مثل هذه الأيام من مطلع فصل الصيف. إلا أن الخطورة هذا العام تكمن في أن موسم الجفاف بدأ باكراً، وسُجلت أولى إرهاصات موسم الحرائق في شهر أيار. كما يفترض، بحسب توقعات التقارير الدولية الأكثر مصداقية، أن تزداد درجات الحرارة هذا الصيف، وبالتالي زيادة الجفاف والحرائق، ناهيك عن تسبّب حشرة «جاذوب السنديان» هذا العام في تعرية مساحات مهمة من الأحراج ويباسها وجعلها طعماً سهلاً للنيران.
أضف إلى ذلك الأثر الكبير لتغيّر المناخ وانحسار المتساقطات، ولا سيما الثلوج، على حياة الغابات والأحراج. إذ أن انحسار الغطاء الثلجي عموماً، وعن الأحراج خصوصاً، يوفر ظروفاً مناخية ملائمة لنمو كثير من الحشرات وتكاثرها وفتكها بالأشجار، في ظل الصيد الجائر للطيور التي تقتات على هذه الحشرات.
يأتي ذلك كله، في ظروف انهيار مالي واقتصادي وإفلاس الوزارات المعنية بحماية الأحراج، كالزراعة والداخلية، بما يحول دون اتخاذها إجراءات وقائية، كالتشحيل، للحماية من الحرائق المتوقعة بقوة هذا الصيف. علماً أن في إمكان هذه السلطات اتخاذ تدابير استباقية لا تكاليف مادية لها، كمنع الصيد البري كلياً ومنع استخدام الأسلحة النارية والمفرقعات النارية والتشدد مع المزارعين لمنع إضرام النيران في المحاصيل أو بعد تقشيش البساتين ومحيطها، والتي غالباً ما تخرج عن السيطرة وتتسبب في حرائق الأحراج.
بلغت كلفة المكافحة الجوية للحرائق سنة 2020 نحو 400 ألف دولار
ويبقى الرهان الأساس اليوم على مبادرات بين الجمعيات والبلديات عبر حملات تطوّعية لشباب القرى لتشحيل جوانب الطرق كي لا تكون وقوداً سهلاً لألسنة النيران، وعبر التطوع لمراقبة الأماكن الحساسة القابلة للاحتراق للإبلاغ والتدخل السريع، على قاعدة أن «الحريق إذا اكتُشف في بدايته سهل إطفاؤه». وهذا الأمر ليس تفصيلاً هذا العام، في ظل ضعف الإمكانات المادية للوزارات المعنية والإدارات المحلية، والضائقة التي أدّت إلى وضع أكثر من 40% من آليات الدفاع المدني خارج الخدمة لعدم توافر الأموال لصيانتها، وبسبب الزيادة الضخمة في أسعار المحروقات… ما يعني أن الحرائق القريبة من الطرقات لن تجد من يكافحها!
وإذا كانت الكلفة البرية للمعالجة غير متوفرة، فكيف هي الحال مع الكلفة الجوية الأعلى، مع شحّ المياه العذبة وعدم جواز استخدام المياه المالحة (من البحر) كون ضررها على الأحراج أكبر من ضرر الحرائق؟
وللمقارنة، فقد بلغت كلفة المكافحة الجوية للحرائق سنة 2020 نحو 400 ألف دولار، بحسب دراسة أجرتها جامعة البلمند العام الماضي. ومع استحالة تأمين مثل هذا المبلغ، والتوقعات بأن حجم الحرائق هذا العام سيكون أكبر بكثير، فإن إمكانات التدخل الجوي في أي حريق تبدو مستبعدة جداً.
وهذا يردّنا إلى السجال الذي جرى يوم فضّل وزير الداخلية السابق زياد بارود الأخذ بنصائح جمعية خاصة لجمع تبرعات لشراء طائرات للإطفاء، بدل نصائح أخرى بالاعتماد على العنصر البشري وتدريب حراس أحراج ومتطوعين في كل المناطق وتجهيزهم للتدخل المبكر في الحرائق، وبصيانة عشرات الهكتارات من الغابات ذات المخاطر العالية، وهو ما كان ليكلّف نصف المبلغ الذي جُمع آنذاك. والثابت، علمياً وعالمياً، أن المراقبة والحماية المحليتين أقلّ كلفة وأكثر فعّالية في الحماية من مخاطر الحرائق، ويمكنهما أن توفرا كثيراً من الخسائر الاقتصادية والبيئية … لا بل يمكن أن يكون لتطبيق هذا الاقتراح مردود اقتصادي محلي مهم أيضاً، عبر توفير فرّامات لفرم الأغصان والحشائش الناجمة عن عمليات التشحيل والتقشيش (بدل إحراقها والتسبب بمزيد من الحرائق وتلويث أجواء القرى) وإعادة ضغطها لتصبح وقوداً بديلاً عن المشتقات النفطية في مواقد أهل القرى، أو تحويلها إلى «كومبوست» للزراعة بديلاً عن الأسمدة الكيميائية. وهي اقتراحات استفاد منها البعض في مبادرات فردية، أو بمساعدات من جهات مانحة خارجية، لكنها لم تُعتمد من ضمن استراتيجية شاملة للدولة في إدارة الأحراج والحياة البرية.
2020 الأسوأ على الإطلاق
بحسب النتائج الأولية لمسح الأراضي المحترقة عام 2020 باستخدام صور الأقمار الاصطناعية، سجّل العام الماضي أسوأ مواسم الحرائق التي عرفها لبنان في التاريخ المسجل عن الحرائق. إذ بلغ مجموع مساحات الأراضي المحترقة 7132 هكتاراً مقارنة مع المعدل السنوي الذي لم يتجاوز 1000 هكتار بين عامَي 2008 و2018.
وقد توزّعت هذه الحرائق على مساحة 2977 هكتاراً من الغابات المحترقة، من ضمنها 54 هكتاراً لأراض تتضمن أشجاراً من الأرز والشوح واللزاب، و1242 هكتاراً من الأراضي الزراعية نتجت عنها خسائر اقتصادية ومالية فادحة لم تُقدر، و1036 هكتاراً من الأراضي داخل مناطق تنوّع بيولوجي مهمة لا تُقدر بثمن، و441 هكتاراً من الأراضي الجبلية ذات الخصائص البيئية الحساسة وعلى ارتفاع يفوق الـ 1500 متر عن سطح البحر.
وقد وصف تقرير صادر عن الصندوق العالمي للطبيعة (WWF) عام 2020 بأنه من أسوأ موسم حرائق غابات على الإطلاق و«أسوأ كارثة للحياة البرية في التاريخ الحديث».
وبحسب تقرير للمنظمة العالمية للأرصاد الجوية (WMO)، صدر في كانون الأول الماضي، يتوقع أن يكون عام 2021 أكثر احتراراً من عام 2020. وبالمقارنة مع العام الماضي، فإن ميزان الحرائق العالمية إلى ارتفاع منذ سنوات. فقد عرفت غابات الأمازون المطيرة في البرازيل العام الماضي أعلى مستوى من الحرائق منذ 12 عاماً. كما وُصفت حرائق الغابات الأسترالية عامَي 2019 و2020 بأنها «خارج السيطرة». وبلغت مساحة حرائق الغابات في كاليفورنيا 800 ألف هكتار، وحرائق الغابات المطيرة في الأمازون أكثر من 900 ألف هكتار من الأراضي.