ستأخذ عبوة مزارع شبعا مداها من الجدل السياسي الداخلي الصاخب، ليس بسبب عدم وجود ملفات خلافية، بل على العكس، فهي كثيرة ومتعددة وخطيرة في معظمها، وإنّما لأهمّية ما حصل وارتباطه بالنزاع الكبير الدائر في المنطقة.
تَفي الإشارة إلى أنّ هذه العملية هي الأولى من نوعها لـ”حزب الله” منذ الاتفاق على “وقف الأعمال الحربية” عام 2006، ما يعني أنّ هناك مسألة خطيرة فرَضت على الحزب استعادة لغة الرسائل المتفجرة.
وقد تكون دخلت في الحسابات، الجروح العميقة التي أصابت الجيش الاسرائيلي بعد حرب غزة الأخيرة والهزيمة السياسية للحكومة الاسرائيلية، ما يجعل الظرف الإسرائيلي الداخلي غير مهيّأ لردٍّ واسع أو كبير، إلّا أنّ الأهم توقيت الرسالة ومغزاها الحقيقي.
في العادة، كان النائب وليد جنبلاط يُسارع الى التعليق، لكنّه بقيَ صامتاً هذه المرة، وهو الذي بحث أخيراً وطويلاً في ملف شبعا والنيّات السيئة لـ”جبهة النصرة” تجاه دروز سوريا ولبنان.
قاد هذا البحث الى استنتاج واضح: لا تستطيع “النصرة” التقدّم عسكرياً الى الأراضي اللبنانية في شبعا أو البقاع الغربي إلّا عبر ممرَّين: واحد تحت الإشراف الاسرائيلي، والثاني عبر أراضٍ تُسيطر عليها إسرائيل، أي أنّ إسرائيل تملك مفتاح تفجير الوضع في البقاع الغربي وعند أبواب الجنوب.
ونظراً إلى العلاقة الممتازة القائمة بين “النصرة” والجيش الاسرائيلي، والتي باتت شبه معلنة، هناك مَن لا يستبعد أن تُسهّل إسرائيل مغامرة ضرب المنطقة الجنوبية أمنياً بهدف نقل الفوضى اليها، ما يفتح أمامها احتمالات إدارة اللعبة تماماً كما هو حاصل في الجولان.
بالتأكيد جاءت عملية جرود بريتال لتُضاعف من نسبة الشكوك. فـ”جبهة النصرة” تحتاج إلى معلومات “جوّية” لاكتشاف ممرٍّ آمن يسمح لها بالوصول الى هذه المواقع، أي أنّ طائرات التجسّس قادرة وحدها على اكتشاف نقاط الضعف على الأرض والاستنتاج واضح. وهناك من يعتقد أنَّ هذه الرسالة لا بدّ من أن تحمل عناوين لها علاقة بالملفات التفاوضية الإقليمية، خصوصاً أنّها تأتي بعد اللقاء الفاشل الذي جمَع الرئيس الاميركي باراك أوباما برئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو.
وبعيداً من هذا الاعتقاد، ألا يستوجب كلّ ذلك السؤال عن أسباب ترك القرار الدولي ثغرة “مزارع شبعا” مفتوحة؟ فعقب حرب 2006 وعدت الأمم المتحدة بإنجاز حلٍّ نهائي لمزارع شبعا يقوم على أساس انسحاب اسرائيلي عام 2007 حداً أقصى، وهذا ما لم يحصل.
كذلك، فإنّ العملية وقعَت في منطقة تَخضع لنزاع على هويّتها، والأهمّ أنّ الخطّ الأزرق لا يشملها، ما يعني أنّها عملياً خارج نطاق القرار 1701، وبالتالي خارج منطقة عمليات “اليونيفيل”، وهو ما جعل هذه القوات تُحقّق في القصف الاسرائيلي الذي جاء ردّاً على العملية، ولا تُحقّق في العملية.
ومن هنا السؤال الأهمّ، لماذا أبقَت العواصم الكبرى ومعها إسرائيل هذا الملف مفتوحاً ومبهَماً؟ ألا يؤدي ذلك الى الاستنتاج أنّ المطلوب إبقاء “عذرٍ” ما يدفع لتحريك الوضع الأمني وإغراق الجنوب بالمشاريع الدولية عندما تنضج؟
صحيح أنّ الديبلوماسية الاميركية توزّع التطمينات بأنّ انهيار الوضع الامني في لبنان ممنوع، وأنّ القيادة العسكرية الاميركية تستعدّ لإرسال أسلحة جديدة الى لبنان من ضمن هبة المليار دولار السعودية، تتضمَّن طائرات حديثة الصنع بتقنياتها وصواريخها، ويستخدمها الجيش الاميركي حالياً، ولو أنّ محرّكاتها تعمل على “المروحة”، وحيث إنّ الحدود القصوى لسرعتها تبلغ 500 كلم في الساعة، إضافة الى مروحيات عسكرية مزوّدة قاذفات صواريخ متطورة.
لكن هل هذا كافٍ لضمان الاستقرار؟ فالمجموعات الإرهابية تملك أسلحة متطوّرة، سمحَت لها مثلاً بإصابة طائرة الـ”سيسنا” في أحد جناحيها خلال معركة عرسال، إضافةً إلى إصابة مروحية والضابط الطيار الذي كان يقودها. وإذا كان انهيار الوضع الأمني ممنوعاً، إلّا أنّ الحرائق المتنقلة تبدو مسموحة، لا بل مطلوبة، فمن يضمن بقاءَ الوضع تحت السيطرة؟
تعرف العواصم الغربية جيّداً، لا بل يتحدّث ديبلوماسيّوها صراحة عن ارتفاع منسوب الخطر في جرود عرسال واستعدادات المسلّحين، وعن دخول أسلحة الى البلدة. لا بل أكثر، فإنّ الأجهزة الامنية اللبنانية نجحت منذ بضعة أيام في اعتقال شخص كان يحمل مبلغ 270 ألف دولار اميركي نقداً يريد إيصالها الى خلايا إرهابية موجودة في لبنان، وأنّه استحصل على هذا المبلغ من محل صيرفة يملكه شخص سوري في الضاحية الجنوبية.
وبالتأكيد، يُعتبر هذا المبلغ كبيراً، وهو مخصَّص لتمويل عمليات ومصدرُه جهة كبيرة. وقد أسفر دهم أماكن وجود النازحين السوريين أيضاً، عن مصادرة كثير من السلاح والمتفجّرات.
كلّ ذلك يعني أنّ هناك قراراً بإشعال حرائق، وهو ليس ببعيد، ولو أنّ العواصم الغربية تعتقد أنّها قادرة على منع حصول الانهيار الامني الكامل، وإبقائه في حدود معينة لتوظيفه في اللعبة الكبرى. فيما “داعش” و”النصرة” تعتقدان أنّهما قادرتان على الإمساك بالقرار اللبناني من خلال اللعب على عواطف أهالي العسكريين المخطوفين ووضعهم في مواجهة الدولة.