كثيرون يسمعون عن الوحوش التكفيرية التي يقاتلها «حزب الله» ولا يعرفونها. تسنّى لأهالي سعدنايل أن يتعرّفوا عياناً كيف يصبح الإنسان تكفيرياً في بيانات «حزب الله»، فيصبح حلالاً هدم بيته فوق رؤوس أطفاله بصاروخ يحمل كيلوغرام من المواد المتفجرة. تبيّن أن أهالي سعدنايل الذين يلعبون الورق ويدخّنون «الأركيلة« ويدبكون حتى الصباح في الأعراس «تكفيريون». لماذا؟ هذه هي القصة…
شهدت بلدة سعدنايل يوم الثلاثاء الماضي إشكالاً أمنياً مباشراً هو الأول من نوعه بين الأهالي وعناصر ميليشيا «سرايا المقاومة». الإشكال كان متوقّعاً، وهو إن لم يكن واسعاً وكبيراً كما حدث في السعديات منذ أسابيع، إلا أنه حمل مؤشرات مرحلة جديدة من الاشتباك المباشر قد يلجأ إليه «حزب الله« عندما تحين ضرورات مشروعه «الإلهي.»
بدأ الإشتباك المحدود حين اعتدت عناصر «السرايا« بالرصاص الحي على عدد من أهالي البلدة، الذين نفّذوا اعتصاماً سلمياً امام مسجد سعدنايل احتجاجاً على تورّط إمامه، الشيخ بلال الشحيمي، مع «حزب الله«، في تجنيد عدد من ابنائهم وإرسالهم الى معسكرات تدريبية في منطقة النبي شيت. مشهد الرصاص الحي ومسلّحي «سرايا المقاومة« أعاد الى الأذهان أحداث 7 أيار وما عانته البلدة يومها من اعتداءات وقصف طال كل زاروب فيها. وعلى اثرها، احتشدت البلدة، بعائلاتها ونخبها وناشطيها، امام المسجد، للمطالبة بإعفاء الشيخ الشحيمي من مهامه، وبإعادة مجموعة من ابنائها من معسكرات «حزب الله«. وعلمت «المستقبل» ان اجتماعاً مطوّلاً عقد في سعدنايل، ضمّ فاعاليات البلدة وعائلاتها، خلص الى ضرورة رفع الغطاء عن الشيخ الشحيمي، ومطالبتهم الدولة اللبنانية واجهزتها الامنية بملاحقة مطلقي الرصاص وعناصر «سرايا المقاومة« وكل من يساهم في اثارة الفتنة داخل البلدة. كما عرض المجتمعون ضرورة تشكيل لجان خاصة لحراسة البلدة ولمواجهة مخططات «حزب الله«، في ما لو تقاعست القوى الأمنية عن حماية البلدة.
سعدنايل، التي تواجه اليوم ميليشيا «سرايا المقاومة« صفاً واحداً، كما واجهت أحداث 7 أيار سابقاً، أغضبت أدوات «حزب الله« التي راهنت وعملت منذ سنوات على التناقضات العائلية في قرى البقاعين الأوسط والغربي. يخرج «تجمع هيئة العلماء المسلمين»، الذي يتقدّم الصفوف الأولى في مناسبات يحتاج فيها «حزب الله« الى عمائم سنية تهز رأسها للأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله وهو يخطب، ليصف المعتصمين السلميين من أهالي سعدنايل بـ»أتباع الجماعات التكفيرية» وبـ»العملاء الصهاينة»! لماذا ؟ فقط لأن أهالي البلدة رفضوا تجنيد أبنائهم في صفوف ميليشيا «سرايا المقاومة«، وواجهوا سلاح عناصرها، وطالبوا الدولة والأجهزة الأمنية بتحمّل مسؤولياتها في حماية بلدتهم!
لكن يبدو ان القصة أكبر من قصة سعدنايل، فميليشيا «السرايا« تنشط في قرى البقاع الأوسط كما لم تفعل من قبل. لم تعد الإجتماعات واللقاءات تقام في أماكن سريّة، خوفاً من بيئة تنبذها، حتى ان سمة الخجل التي اتسّم بها الذاهبون الى دورات عسكرية قد سقطت. يقف «فان» أبيض اللون عند مدخل إحدى القرى، فيصطحب «المقاومين الجدد» أمام أعين الجميع. وكأنّ بهؤلاء يقولون لمن يهمه الأمر:»نحن هنا«!
بموازاة معركة «الحياة أو الموت» التي يخوضها في الزبداني، ومحاولاته الحثيثة لتغيير ديموغرافيا قرى ومدن الشريط الحدودي مع سوريا، كرّس «حزب الله« في الأسابيع الماضية اهتماماُ كبيراً بمثلّث «سعدنايل- برالياس-مجدل عنجر». فلماذا يجهد الحزب اليوم لاختراق هذه القرى على وجه التحديد؟ وهل تتحضّر ميليشيا «السرايا« للعب دور ما في هذا المثلث الاستراتيجي اذا سارت رياح الزبداني كما تشتهي سفن «حزب الله«؟
اتّخذ الحزب قراراً باختراق قرى البقاعين الغربي والأوسط خلال وعقب أحداث 7 أيار، يوم واجه «مقاومة أهلية» عفوية في تلك القرى. عمل يومها شباب هذه القرى على جمع بعض الأموال من مدّخراتهم لشراء بعض من الذخائر لمواجهة القصف العشوائي الذي كان ينهال على سعدنايل وتعلبايا من المرتفعات التي يسيطر عليها «حزب الله«. قرأ الحزب آنذاك رسالة «المقاومة الأهلية» جيّدا، وانطلق بعدها في العمل على اختراق جهاز مناعتها الطبيعي. دخل الى هذه المنطقة، مستفيداً من الأوضاع الإقتصادية والمعيشية الصعبة التي تعيشها فئة كبيرة من الشبان والخرّيجين. اصبح الكثير من «الباحثين عن وظيفة»، مقاومين مع وقف التنفيذ! هذا يتقاضى 400 دولار شهرياً (يرتفع السعر في القرى الاستراتيجية)، وذاك يحصل على مكافأة في اي دورة عسكرية يثبت فيها جدارته. هكذا صار عناصر ميليشيا «سرايا المقاومة» قنبلة معدّة لتفجير فتن محليّة عندما تقتضي ضرورات «المشروع الإلهي«. ليس هؤلاء جزءاً عضوياً من جيش «الولي الفقيه»، مهمّتهم أصغر من ذلك. يكفي ان يكون في كل قرية فتنة جاهزة للتفجير بين عائلتين او شارعين، في بيئة يغلب عليها الطابع العائلي والعشائري. حتى ان «حزب الله« اختار عناصر ميليشيا «السرايا» بدقّة. أي عائلة مناهضة لتيار «المستقبل« لها أفضلية الدعم بالمال والسلاح ومظاهر السلطة. هذا لا يتحرك الا بموكب من المسلّحين وسيارات الدفع الرباعي، وذاك يتباهى بقدرته على فك أسر أي خارج عن القانون يحضر أهله طلباً للنجدة.
تلك كانت مجرّد البداية، بداية اختراق جهاز المناعة الطبيعي لبيئة أهالي البقاع الأوسط. لكن الشغل في الأسابيع الماضية بات على المكشوف، حيث بدأ الحزب بترجمة ما اسّس له لسنوات على أرض الواقع. التفجير الأول والمباشر كان في بلدة سعدنايل، التي واجهت «حزب الله« صفاً واحداً في 7 أيار.
رسالة الحزب المغلّفة بالرصاص لأهالي سعدنايل، تلقّفتها بلدات أخرى تعاني الأمرّين من تشبيح عناصر «سرايا المقاومة». فبلدتا برالياس ومجدل عنجر، كانت لهما حصة الأسد من عناصر هذه الميليشيا، التي تعمل بجهد منذ سنوات لاختراق جغرافيا «خط الشام». مصادر مطلعة في مجدل عنجر تحدّثت الى «المستقبل» عن حراك مكثّف لعناصر «السرايا» في الأسابيع الماضية. وعن أعداد هؤلاء وامكانية تأثيرهم على أمن البلدة الحدودية. وتقول المصادر «إن عددا من مشايخ البقاع الاوسط النافذين لدى حزب الله، نجح في تجنيد ما بين 80 و 120 شاباً من البلدة تراوح اعمارهم بين الـ17 والـ22 عاماً. وهؤلاء، تلقّوا اشكالاً مختلفة من الدعم، فمنهم من يتقاضى 500 دولار شهرياً، ومنهم من سهّل له الحزب عمليات التهريب من سوريا الى لبنان، وبخاصة تهريب السوريين عبر الجبال مقابل اموال طائلة«. وبرأي المصادر، فإن أهالي مجدل عنجر رفضوا حتى اللحظة الدخول باشكالات مباشرة مع هؤلاء، أولاً كي لا يعطوا حزب الله فرصة للعبث بأمن البلدة، وثانياً لأن هؤلاء لا يشكّلون خطراً على بلدة متماسكة من حيث مناهضتها لحزب الله ومشاريعه في المنطقة«. وعلى الرغم من الحالة هذه، فإن ما حصل في سعدنايل بالأمس شكّل عنواناً للحذر والترقّب والمراقبة في مختلف قرى البقاع الأوسط.
حاول «حزب الله« استغلال تنافس العائلات والدخول على خط خلافاتها لنشر السلاح (والأمثلة كثيرة)، ولا بأس في أن يقع الدم وتشتعل النار على محورين استراتيجيين للحزب، ليتفرّغ لحروبه المقدسة على طريق القدس. سعدنايل هي المحور الأول والأخطر، نظراً الى موقعها الجغرافي الذي يربط محافظة بعلبك-الهرمل ببيروت، وهو طريق لا يقل اهمية للحزب عن طريق الجنوب. وبلدتا برالياس ومجدل عنجر هما المحور الاستراتيجي الثاني، لوقوعهما على «خط الشام». حتى ان أهالي البقاع الأوسط باتوا يطرحون أسئلة مصيرية: ماذا لو نجح «حزب الله« في احتلال الزبداني وفي تغيير ديمغرافيتها والقرى المحيطة؟ هل ستصبح قرى البقاع الأوسط هدفاً للحزب للسيطرة على مداه الحيوي بين مناطق نفوذه في لبنان والعمق السوري (سوريا المفيدة)؟ سعدنايل كانت السبّاقة في توجيه رسالة الى «حزب الله« وسراياه: التفاف شعبي وعائلي واسع حول قرار موحّد ينبذ كل مشاريع الحزب في المنطقة. لا بد ان يعني ذلك شيئاً لحزب لم يجد بديلاً من الفتنة للعبث في الساحة الوحيدة المتبقية خارج نفوذه في منطقة البقاع.