آلاف الهكتارات من الغابات ضحية الحرائق ومئات آلاف الأشجار فريسة القطع
لا يقتصر دور الغابات في لبنان على رسم لوحات جمالية لطالما تغنّى بها بلدنا “الأخضر” وكانت محط إعجاب كل من وقع نظره عليها، لبنانيين كانوا أم أجانب. لكنه يمتدّ ليشمل الكثير من الفوائد البيئية والاقتصادية أيضاً. فهي عن حق ثروة لناحية الدور الذي تلعبه في منع تدهور التربة وانزلاقها وحماية ينابيع المياه والأودية، كما المحافظة على استقرار الجبال والحدّ من ظاهرة الاحتباس الحراري عبر امتصاص غاز ثاني أكسيد الكربون. إضافة إلى أنها أشبه بـ”مصفاة طبيعية” للغبار والدخان وغيرها من ملوّثات الجوّ، وتُعدّ موطناً طبيعياً للحيوانات والنباتات.
من جهتها، تلعب المحميات الطبيعية دوراً أساسياً في حماية واستدامة الموارد الطبيعية، وخصوصاً التنوع البيولوجي. كما تُعتبر عنصراً مهماً في إطار التنمية المحلية والريفية، إذ إنها تساهم في جذب عدد كبير من الزائرين الذين يساهمون بدورهم – عبر نشاطات السياحة البيئية – بزيادة مداخيل المجتمعات المحلية المتواجدة في المحيط الحيوي للمحميات.
في أيلول الماضي، وضمن لقاء جمع وزير البيئة، الدكتور ناصر ياسين، مع ممثلي المحميات الطبيعية حول إدارة مخاطر حرائق الغابات، أعلن الدكتور جورج متري، مدير برنامج الأراضي والموارد الطبيعية في جامعة البلمند، أنّ الحرائق التهمت أكثر من 3 آلاف هكتار من الغابات في العام 2019، في حين قضت على 7 آلاف هكتار في العام 2020. أما خلال العام الحالي وفي سابقة من نوعها، فقد احترقت مساحة 1500 هكتار خلال ساعات معدودة في عكار وحدها.
وقائع مرعبة لكن الأمور لا تتوقف عند هذا الحد. فظاهرة القطع العشوائي للأشجار مثال صارخ آخر. إذ على الرغم من أنّ الجهات المعنية بالثروة الحرجية لا تملك أرقاماً محددة عن أعداد الأشجار التي قُطعت من قبل المواطنين وتجار الحطب، وفقاً لمصلحة الأبحاث العلمية التابعة لوزارة الزراعة، إلّا أنّ العدد يرتفع بحسب مطّلعين بوتيرة يومية تصاعدية في ظل العجز المتمادي عن ردع هذه الظاهرة. وبحسب تقارير دورية ترد من البلديات ومكاتب وزارة الزراعة، فقد سُجّل مؤخراً قطع حوالى 5 آلاف شجرة من أحراج جنوبي لبنان في النصف الأول من شهر تشرين الأول الماضي، و100 ألف شجرة من أحراج البقاع وحوالى 250 ألف شجرة من مناطق حرجية في القطاعين الأوسط والغربي من الجنوب. وتتوزع الأشجار المستهدفة بين سنديان وملول وشوح ولزاب وصنوبر.
هذه الأرقام إن دلّت على شيء فهو أن المحميات والغابات في لبنان مكان مباح للتعديات. فالتحديات كثيرة وإن كان أبرزها الحرائق والتوسع العمراني وقطع الأشجار. وهو ما يدعو إلى التساؤل كيف لقانون حماية الغابات أن يبقى مجرّد نص قرار صادر عن وزير، في حين أنها تفتقر فعلياً إلى جميع أنواع الوقاية والرعاية؟ وهل يبيح ارتفاع أسعار المحروقات والانقطاع شبه التام للتيار الكهربائي، على فداحة كل منهما، للمواطن أن يشنّ حرباً شعواء على أرضه معرضاً أمنه الغذائي والمائي والبيئي للخطر؟
القوانين منصوصة… لكن العبرة في التنفيذ
الأرقام، رغم عدم دقّتها التامة، تدعو للقلق. فاستباحة البيئة عموماً ليست وليدة اليوم، إنما لاحت معالمها منذ تسعينات القرن الماضي مع بدء عمليات ردم البحر والانتشار العشوائي لمكبات النفايات وإنشاء المقالع والكسارات، كذلك الحرائق التي قضت على جزء كبير من الثروة الحرجية ناهيك بالقطع غير المنظم لأشجار تاريخها من تاريخ لبنان، كالأرز والشوح واللزاب. فأين دور القانون في حماية ما تبقى من لبنان الأخضر أمام هول المجازر المرتكبة بحق البيئة؟
عن هذا السؤال يجيب وزير البيئة السابق، فادي جريصاتي، بأنّ التحديات كثيرة ومتشابكة في هذا الملف، وبأنّ تنفيذ القوانين ذات الصلة بالبيئة لا يعود فقط إلى الوزارات، وإنما إلى القضاء وقوى الأمن الداخلي أيضاً. ثم أن “تعيين وزراء لا كفاءة لديهم وغير متحمسين للعمل أو ربما غير راغبين بوزارة البيئة أساساً” عامل غير مساعد هو الآخر في أحيان كثيرة. ومن هنا تبدأ المشكلة، بحسب جريصاتي، الذي أضاف: “خلال تولّي وزارة البيئة في العام 2019، أقرّ مجلس النواب قانون المحميات البيئية وأصبح أخيراً لمحمياتنا قانون، إنما العبرة كانت ولا تزال في التنفيذ”. لا شكّ أنّ الفساد المستشري في البلد ونظام المحاصصة على أسس التوزيع الطائفي يشكل عائقاً أمام تنفيذ الكثير من القوانين. فملفّ تعيين حراس الأحراج الناجحين في مباراة مجلس الخدمة المدنية، مثلاً، ما زال عالقاً في أدراج رئاسة الجمهورية بحجة عدم تحقق التوازن الطائفي في التوزيع. وعن الإجراءات الواجب اتخاذها كي لا يبقى القانون حبراً على ورق، يشير جريصاتي إلى ضرورة أنَ يصبح العمل جدياً أكثر كي تتحول وزارة البيئة إلى وزارة سيادية. كذلك فالمعركة الحقيقية يجب أن تركّز على إنشاء شرطة بيئية على غرار البلديات التي لديها ضابطة عدلية ووزارة الاقتصاد التي لديها مراقبون، أما وزارة البيئة، فقد “سعيت جاهداً مع مجلس الخدمة المدنية كي تكون لها شرطة بيئية”…
بالنسبة لفرض القانون في خضم معالجة المخالفات في ملف البيئة، لفت جريصاتي إلى أنّ العقبة هي لدى المدعين العامين، إذ لا يخفى على أحد أنّ الأكثرية في لبنان ينتمون إلى جهات سياسية تحميهم، وهذا ما يحوّل الضابطة العدلية إلى شريكة في الجريمة، ويسمح بالتمادي في الانتهاكات الحاصلة. فـ”إذا تمّ القبض على تاجر حطب ما، يجب أن يسجن – بحسب القانون – لمدّة شهر مع دفع غرامة مالية، ولكن بمجرّد توفير زعيمه الحماية له، تقتصر العقوبة على دفع مبلغ 500 ألف ليرة لبنانية، في وقت يكون قد باع الحطب بقيمة 15 مليون ليرة. فهل تعوّض غرامة الـ500 ألف ليرة شجرة لزاب عمرها 1500 سنة؟”. من هنا، لا بد من الإسراع في تعزيز ودعم حراس الأحراج والبلديات والضرب بيد من حديد رغم كل الأزمات التي يمرّ بها البلد. “فالحلّ السياسي يأتي مع الوقت، وإنما الشجرة المقطوعة لا تُعوّض بآلاف السنين”، يقول جريصاتي.
قطع الأشجار جريمة أم وسيلة مباحة في ظل ارتفاع أسعار المحروقات؟
ما هو رأي الناشطين البيئيين؟ في حديث مع “نداء الوطن”، أشار رئيس الحركة البيئية، بول أبي راشد، إلى أنّ اللجوء إلى الحطب كوسيلة للتدفئة ليس جريمة يعاقب عليها القانون، لكن حين تتحوّل عملية القطع إلى تجارة تخفي وراءها أطماعاً مادية على حساب أشجار لا تعوّض بعقود من السنين، فتلك هي الجريمة الحقيقية”. وأضاف أن شجرة اللزاب، مثلاً، والتي تُعمّر أكثر من الأرزة، هي شجرة لا يزرعها الإنسان، وإنما يحمل بذورها طير الكيخن في معدته، حيث تتمخض، وتخرج منه جاهزة لكي تستقبلها تربة خصبة. والحال أن قطع شجرة اللزاب – كما غيرها من الأشجار المعمرة والنادرة – يدل إمّا على جهل أو جريمة وإما على سلطة تتعارض مصالحها مع تطبيق القوانين البيئية أو تعجز عن حماية ثروات وطنها. فـ”العدوّ”، والكلام يبقى لأبي راشد، “ليس من الخارج… عدوّ لبنان في داخله… وإلّا ما تفسير قطع مليوني متر مربّع من مساحات الأشجار لبناء سدّ جنّة الذي لم يُبصر النور؟ وما الهدف من وراء تجنيد أكثر من 30 منشاراً آلياً لقطع آلاف الأشجار فور اتخاذ القرار بإنشاء سدّ بسري؟”.
على ضوء ما تقدم، يتعين العمل على إدارة مستدامة للغابات الموجودة بحضور مختصين يشرفون على عمليات القطع والتشحيل للحفاظ على ثروة لبنان الخضراء، حيث هو حاجة ماسة للشرق الأوسط والدول المحيطة كون غاباته هي بمثابة خزان المياه الذي يستفيد منه المحيط، لا سيما في موسم الشتاء. وإذ استنكر أبي راشد مسلسل المخالفات المستمر مؤخراً في عكار، كقطع مئات الأطنان من الخشب في غابات بلدة وادي خالد ووادي جهنم وفنيدق، وأشجار السنديان المعمرة في محلة غزراتا من دون حسيب ولا رقيب، تساءل: “هل كون عكار منطقة نائية يعفي المرتكبين من المحاسبة، وهل يبرّر كونها خزان الجيش اللبناني تهاون القوى الأمنية وعدم تشدّدها في وضع حد للارتكابات؟”.
في هذا السياق، وجّه كلّ من جريصاتي وأبي راشد مناشدة مشتركة إلى الدولة عامة ووزارة الشؤون الاجتماعية والمجتمع الأهلي خاصة لتوفير مادة المازوت للبنانيين، على غرار السوريين، وذلك لتقليص الحاجة إلى اعتماد الحطب كوسيلة للتدفئة، وبالتالي التخفيف من القطع العشوائي للأشجار والذي ينذر بنتائج وخيمة على جميع الأصعدة.
الحرائق ليست غضباً من السماء
“نتفاجأ بالحرائق في لبنان كمن يتفاجأ بالمطر في موسم الشتاء”. هكذا علّق جريصاتي على سؤال حول ما إذا كانت الحرائق غضباً “إلهياً” يضاف إلى كوارث أخرى مفتعلة في الآونة الأخيرة، مشيراً إلى أنّ القرى الأكثر تعرضاً للحرائق محدّدة مسبقاً وقد عُقد أكثر من مؤتمر بهدف رفع منسوب الوعي الاستباقي دُعيت إليه جميع البلديات المصنفة ضمن مناطق الخطر (Zone Rouge). وجاءت تلك المؤتمرات نتيجة إدراك بأنّ لا حلّ لمشكلة الحرائق سوى بتحقيق اللامركزية والتعاون مع البلديات، إذ من الطبيعي أن يكون سكان أي منطقة أكثر المهتمين بالمحافظة عليها. وللوصول إلى الهدف المنشود، لا بدّ من تعزيز صلاحيات البلديات وتمويلها من أجل زيادة عديد حراس الأحراج والشرطة البلدية. فالتشحيل الموسمي هو حلّ بيئي يحمي الأحراج من الحرائق، لذا يجب الاستفادة من إمكانيات الخبراء الداخليين والخارجيين للقيام بالمهمة تحت رقابة وزارة الزراعة.
تجدر الإشارة إلى أن أسباب اندلاع الحرائق متعددة. فمنها المباشرة، كتنظيف المزارعين للأراضي عبر إضرام النار في الأعشاب اليابسة، وإشعال مكبات النفايات بطريقة عشوائية، كما الأنشطة التي تقام من قبل المخيمات. ومنها غير المباشرة، كغياب أعمال صيانة الغابات وإهمال الغطاء الحرجي والنباتي. لكن مهما تعدّدت الأسباب، فالنتيجة واحدة: تأثير الحرائق الهائل على المناخ المحلي”Microclimat” ، إذ بات انتظار حلول العواصف والأمطار شغلاً شاغلاً للكثيرين. في حين لو كان مستوى التلوث أقل ومساحة الغابات أكبر، لكنّا، من وجهة نظر أبي راشد، ضمنّا استمرارية ميزة الفصول الأربعة في لبنان (التي انحصرت اليوم بفصلين في ظل غياب الفصلين الانتقاليين)، وهذا ما بدأت تظهر معالمه جلية على المناخ وبالتالي على الأمنين الغذائي والمائي.
الوقت داهم…
إذا كانت المحميات التابعة لوزارة البيئة تتمتع بحماية اللجان المنتخبة ومراقبين مختصين استطاعوا حتى اليوم، بفضل تمويلهم من الموازنة السنوية للدولة ودعمهم من المؤسسات الدولية، الحفاظ على 14 محمية تشكل حوالى 3% من مساحة لبنان، فمن يحمي الـ10% المتبقية من مساحة الغابات التي تقضي عليها الحرائق والنفايات وعمليات القطع العشوائي للأشجار؟
الجمعيات التي تُعنى بالتشجير كثيرة، لكن عملية التشجير مكلفة وتتطلب كميات كبيرة من المياه للريّ كما تحتاج إلى مئات، إن لم يكن آلاف السنين، لتعويض ما قُطع. ففي مقارنة بسيطة، لا يعادل مجموع ما زُرع في لبنان خلال الـ15 سنة الماضية ما قُطع نتيجة مشروع سدّ بسري. وعليه، فإنّ حماية الغابات ومساعدتها على الانتشار هما الحلّ الوحيد لإنقاذ ما تبقى من ثروة لبنان الخضراء.
ختاماً وفي حين رأى جريصاتي أنَّ الحلّ البيئي هو حلّ متكامل لا يتجزأ، طلب من وزارتي البيئة والزراعة العمل الدؤوب على تنفيذ القوانين المتعلقة بالبيئة ومتابعتها. كما تمنى على وزارتي الداخلية والعدل الملاحقة الصارمة لكل مخالف ومسيء للثروة الحرجية، وناشد وزارة الشؤون الاجتماعية والمجتمع الأهلي المساعدة، كل حسب صلاحياته وامكانياته. بدوره، أعرب أبي راشد عن أنّ حماية البيئة لن تتم على ما يبدو إلا من خلال الجيش اللبناني كـ”ضابطة بيئية” تحمي إرث لبنان الأخضر، في ظل تقاعس الوزارات وتواطؤ بلديات كثيرة وعدم الثقة أحياناً بدور قوى الأمن. كما طالب بإعلان حالة طوارئ بيئية شبيهة بحالة الطوارئ الصحية التي ترافقت مع المراحل الأولى من تفشي جائحة كورونا.
المشاهد المخيفة لآثار التغير المناخي- وانحسار المساحات الخضراء أحد أسبابه- على الأنظمة البيئية والاجتماعية والاقتصادية في أماكن مختلفة من العالم لا تنذر إلا بالسوء. وهو جرس إنذار لأن لبنان “الجريح” أوهن من أن يتحمل تبعات أي شيء من ذلك القبيل.