قد تكون هدنة الساعات العشر التي حددها الجيش الروسي غداً الجمعة هي آخر الهدنات في حلب، والتي لم تنتج جميعها أي إجلاء للجرحى وإدخال للأغذية والأدوية وسماح للمدنيين بالمغادرة إذا أرادوا. تبدو الأمور سائرة إلى حسم عسكري يمهّد له الروس بحشد أسطولهم واستعدادات طيرانهم، كما تقدّم واشنطن، ومعها الأمم المتحدة، قدراً من الموافقة أو غضّ النظر، حين يركّز الإعلام الأميركي على «سيئات» المسلحين في حلب الشرقية الذين «يحتجزون المدنيين ويبتزّون بعضهم بدفع أموال لقاء المغادرة»، وحين يصدر المبعوث الخاص للأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا بيان إدانة للمسلحين في شرق حلب لقصفهم مدنيين في غربها، ويقول: «إن من يزعمون أن القصد هو تخفيف الحصار ينبغي أن يتذكّروا أنه لا مبرر لاستخدام عشوائي للسلاح باتجاه مناطق مدنية، فذلك يمكن أن يرقى إلى مستوى جرائم حرب».
فشل الاتفاق الأميركي – الروسي في حل مشكلة حلب، كما فشل اقتراح دي ميستورا بأن يغادر المدينة المسلحون المنتمون إلى «فتح الشام» («جبهة النصرة» سابقاً). فلم يبق سوى الأفق الأسود: الحرب التي يتوقّعها المراقبون نهاية هذا الأسبوع، ويذهب بعضهم إلى موعد ذي دلالة هو الثامن من الشهر الجاري، أي أن حفلة القتل في شرق حلب تتم فيما يقترع الأميركيون لانتخاب رئيس جديد وأعضاء مجلس النواب وثلث أعضاء مجلس الشيوخ وعدد من حكام الولايات. ولن تتحقق التوقُّعات بتزامن الهجومين على حلب والموصل، ذلك أن «داعش» أحرق مداخل المدينة العراقية، ويهدّد بإحراق منطقة نفطية داخلها بما يؤخر العمليات العسكرية لفترة غير محدودة. يبدو أن حلب ستسبق الموصل، ليس سقوط شرق المدينة فقط وإنما أيضاً موت آلاف الأبرياء الذين سيضافون إلى مئات الآلاف من ضحايا حرب سورية التي لا يأبه «أبطالها» بالمدنيين. أليس اللهاث للوصول إلى أوروبا هو استفتاء مدني أسقط النظام والمعارضة والمتدخّلين لمصلحة الطرفين من أجل سلطة لا تأبه بالمدنيين حرباً أو سلماً؟
نجاح المتحاربين في تهجير ملايين السوريين والعراقيين هو تعبير عن فشلهم في حفظ النظام أو انتصار المعارضة. كانت الهجرة الداخلية وتلك الخارجية إعلان سقوط الطرفين المتحاربين ومن يدعمهما، وقد تلطّخ هذا السقوط بدم الأبرياء وذلّ السبايا وحطام معالم تاريخية لمنطقة اختزنت حضارات أسست حضارتنا الحديثة.
وبين المعلوم الذي لا يصل والمجهول الذي يتصدّر المشهد الإعلامي، يفقد المشرق العربي مدينتين كبيرتين هما حلب والموصل، بل إن حلب تتعدّى سوريتها إلى كونها المدينة الحدودية لأوروبا الحديثة الواسعة، فهي، ومعها باكو الأذربيجانية، كانتا قبل الحرب العالمية الأولى أشبه بفيينا وبرلين وباريس في عمارتهما وتنوع سكانهما، وهما تستندان، في حالة حلب إلى التجارة العريقة المستمرة على طريق الحرير، وفي حالة باكو إلى اكتشافات النفط المبكرة.
لا بشار الأسد ولا فلاديمير بوتين ولا قادة المعارضة السورية المسلّحة وغير المسلّحة مؤهلون لرثاء حلب، فالمراثي لورثة أرميا من الشعراء والروائيين وأهل الحكمة، هؤلاء رثوها حين حكم العسكر سورية مجففين ثقافة المدينة ومحيلين تنوّعها إلى صوت واحد معصوم.
الذين يهدمون المدينة والذين مهّدوا بالتأييد أو بالاستفزاز، هم سادة الصوت الواحد، وحين يكثر القاتلون فهم سائرون إلى مصير محتوم: قاتل واحد وشركاؤه يلحقون بالضحايا ولو بعد حين.
قبل يومين، في الثانية بعد منتصف الليل، اصطحبت صديقاً إلى مطار بيروت لوداع أحد أنسبائه الآتي من حلب. هناك رأيت حوالى خمسين سورياً وسورية ينتظرون طائرة تقلّهم إلى كندا، أرضهم الجديدة، وكانت وجوههم أشبه بتماثيل حطمها «داعش» أو يكاد.
وقبل أسبوع اهتدى صديقي إلى الحلبي الدكتور محمد محفّل، أبرز المختصين باليونانية القديمة والحضارة الهيلينية، لمساعدته في بحث تاريخي، بعدما تخوّف من أن يكون محاصراً في حطام مدينته، وقد وجده ناجياً في مسكن متواضع في دمشق، بعيداً من بيت فسيح ومدينة لا تشبهها مدينة.