يمكن للرأي العام أن يقفز فوق نتائج الانتخابات البلدية التي طويت صفحتها منذ نحو شهر، إلا أنه لا يمكن للقوى السياسية تجاهلها، خصوصاً في دائرة بيروت الأولى. واللافت في استطلاع أُعدّ منذ نحو شهر لمدينة بيروت أن الأحزاب فقدت قدرتها على التأثير في الناخب، ما يوحي بأن أيام إسقاط اللوائح المقفلة ولّت لمصلحة المرشح الذي يعبّر عن المزاج الشعبي الحقيقي
تصعب مقارنة نتائج انتخاب بلدية بيروت بأي انتخابات بلدية أخرى. فالناخبون، وخصوصاً الحزبيين منهم، بعثوا برسائل لافتة الى أحزابهم عبر إسقاط أولوية الانتماء الحزبي في عملية الاقتراع لمصلحة الأفراد الذين يمثلون طموحهم الفعلي. لذلك كانت النتيجة التي حصدتها لائحة «بيروت مدينتي» صادمة للأحزاب التي رعت «لائحة البيارتة».
وهذه النتيجة إن دلت على شيء، فعلى أن مبدأ المحاسبة لا يزال مؤثراً في طريقة الاقتراع، ولا يمكن بعد اليوم الترداد أن الناخب الحزبي يصوّت «عالعمياني» لزعيمه. وفي هذا السياق، أجرى أحد المراكز استطلاعاً للرأي لمعرفة التوجهات السياسية للناخبين في دائرة بيروت الأولى (الأشرفية ــــ الرميل ــــ الصيفي). ونُفّذ الاستطلاع بين 14 و17 حزيران 2016، أي بعد مرور نحو شهر على نتيجة الانتخابات البلدية، وشمل عيّنة من 259 مستطلعاً، واعتمدت فيه منهجية إحصائية تلحظ التوزع المناطقي، إضافة الى الفئات العمرية المختلفة من الجنسين.
بدا جلياً في السؤال الأول عن الجهة السياسية المفضلة لدى المستطلع أن نسبة تأييد الأحزاب لم تتغير ولا يزال التيار الوطني الحر القوة الانتخابية الأولى (33.3%)، تليه القوات (19.3%)، فيما نالت الكتائب 5%. واللافت أن رئيس مجلس إدارة سوسييتيه جنرال أنطون صحناوي حلّ رابعاً (3.7%)، متقدماً على النائب ميشال فرعون (3.2%)، علماً بأن صحناوي قاطع الانتخابات البلدية الأخيرة، ونجح ضمنياً في إيصال رسالته الى الأحزاب المتحالفة بمعزل عنه.
في الشقّ الذي يتناول سبب انتخاب لائحة «بيروت مدينتي» أو لائحة شربل نحاس، أشار الاستطلاع الى أن 60.2% من المستطلعين صوّتوا لهما بسبب «رغبتهم في التغيير»، بينما رأى 17.2% أن فشل الطبقة السياسية في تحمّل هموم الناس هو السبب الرئيسي، وذلك مقابل 15.1% من المستطلعين الذين لم يصوتوا للائحة الاحزاب بسبب عدم ثقتهم بالتحالف بين الأحزاب المسيحية وتيار المستقبل. وهو ما يترجم في نسبة اقتراع العونيين والقواتيين لـ»بيروت مدينتي» ونحاس. على المقلب الآخر، قال 50% من المقترعين للائحة البيارتة، من العينة، إن السبب وراء تصويتهم هو الالتزام بالقرار الحزبي لا البرنامج أو المرشحين، فيما صوّت 33% منهم لاقتناعهم باللائحة. واللافت في السؤال الذي تلى ذلك، أن نسبة 6.8% من المستطلعين فقط رأوا أن الانتماء الى تيار سياسي يؤيدونه هو الصفة الأبرز التي يجب توافرها في المرشح، بينما حصدت صفة «القدرة على تقديم الخدمات (38.8%) والحضور والفعالية في الدائرة (19.1%) كما الاستقلالية وحرية الرأي (16.9%) النسبة الأكبر. وهو ما يفسّر حصول المرشح عن المقعد الأرثوذكسي في التيار الوطني الحر زياد عبس على نسب لا يستهان بها من غالبية الأحزاب عند استطلاع نسبة أصوات المرشحين الأرثوذكس من القوى السياسية. فعبس كان قد فضّل السير وفق رغبة القاعدة الحزبية العونية عبر اعتماد لائحة خاصة به، عكس خيار قيادة التيار بالتحالف مع لائحة البيارتة. رغم ذلك، يبيّن الاستطلاع أن 75.3% من التيار الوطني الحر يصوّتون لعبس إذا ما خُيّروا بينه وبين أي مرشح أرثوذكسي آخر، و54% من مناصري الكتائب، 14% من مؤيدي الوزير ميشال فرعون و38% آخرين، بمن فيهم حزب الله، و8% من القوات اللبنانية. ما سبق يقود الى خلاصة أن الحزبي لم يعد يؤمن بإسقاط لائحة حزبه «زيّ ما هي»، ولا يكتفي بترشيح الحزب الرسمي للمرشح، بل يبحث عن صفات إضافية تتناسب مع تطلعاته. لذلك، يعمد الكثيرون الى تشكيل لوائح خاصة بعيداً عن اللوائح الحزبية المقفلة كما سابقاً.
يتقدم عبس أرثوذكسياً وفرعون كاثوليكياً على باقي المرشحين
في ما خص المرشح الأرثوذكسي الآخر، المنافس القواتي لعبس، عماد واكيم، تظهر نقطة ضعف كبيرة في عدم وجود تأييد واسع له بين مؤيدي الأحزاب، باستثناء طبعاً القوات اللبنانية، وبنسبة لا تتجاوز 50%. أما المفاجئ فهو نيل النائبة نايلة تويني أصواتاً من كل الأحزاب. ولا يزال مؤيّدو فرعون يحتسبونها كمقرّبة منه (57%)، و27% من مؤيدي الكتائب يصوّتون لها، و18% من القوات، 5% من التيار و12% آخرون.
النتائج السابقة تترجم خلال استطلاع القوة الانتخابية للمرشحين الأرثوذكس حيث يحلّ عبس أول بنسبة 39%، وواكيم ثانياً بنسبة 17%، وتويني ثالثة بنسبة 16.4%، يليها نقولا تويني بـ8.2%. في سياق آخر حول نسبة أصوات الأرثوذكس من اللوائح البلدية، يحصد عبس نسبة لافتة من الذين اقترعوا لـ»بيروت مدينتي» يقارب 40%، و29% من الذين صوّتوا للائحة البيارتة و87.5% من المقترعين للائحة شربل نحاس و60% ممن شكلوا لائحة خاصة. بذلك يتمايز عن باقي المرشحين الذين انخفضت نسبة تأييدهم الى 11.8% (واكيم) و17.6% (نايلة تويني) من أصوات «بيروت مدينتي»، مقابل 30% للأول من لائحة البيارتة و19% من اللائحة نفسها لمصلحة نايلة تويني.
على الضفة الكاثوليكية، يتقدم النائب فرعون على بقية المرشحين (60% قوات، 45% كتائب، 15% تيار). أما نائب رئيس التيار الوطني الحر الوزير السابق نقولا صحناوي فنال 63% من أصوات حزبه، و18% من تصويت الكتائبيين و15% من القوات. أما القوة الانتخابية للكاثوليك، فيتصدرها فرعون 36%، يليه نقولا صحناوي 32% وأنطون صحناوي 13%، الأمر الذي يجعل أنطون الصحناوي بيضة قبان مرجّحة في أي انتخابات مقبلة في دائرة بيروت الأولى.
في تصويت اللوائح للكاثوليك، 34% من المقترعين لمصلحة بيروت مدينتي منحوا أصواتهم لفرعون، فيما 31.8% منهم لنقولا صحناوي، و11.8% لأنطون صحناوي. عند «البيارتة»، نال الأول 43% والثاني 45% والثالث 2%، بينما صوّتت لائحة شربل نحاس بـ12.5% لفرعون، و25% للوزير صحناوي، و0% لأنطون صحناوي.
ويظهر الاستطلاع، في إطار آخر، تراجع قوة النائب الكتائبي نديم الجميّل الانتخابية الى 32%. وفيما كان الاعتقاد أنه مرشح بيروت مدينتي المفضّل، نال 29% فقط من أصواتها و24% من البيارتة. والتراجع هذا انعكس صعوداً لدى مرشحين آخرين كمسعود الأشقر الذي استطاع الحفاظ على قوته في الدائرة ورفعها عبر التفوق على نديم بفارق 16%، إذ نال 48% في الجزء الخاص من القوة الانتخابية، علماً بأن الأشقر لم يتدخل لمصلحة أي فريق في الانتخابات البلدية، ولا هو يحظى بصلاحيات النائب الكتائبي الذي يكسب عطفاً كبيراً كونه ابن بشير الجميل. وقد نال الأشقر نسبة تقارب 50% من المصوّتين للائحة بيروت مدينتي، وهي النسبة نفسها تقريباً التي نالها من لائحة البيارتة. والبارز أيضاً مضاعفة المرشح جورج شهوان لأرقامه، لتصبح قوته 8.7% رغم تجميد نشاطه في الدائرة منذ فترة طويلة.
وتؤكد نتائج هذا الاستطلاع أن الحراك المدني بكل فروعه وفرقه تمكن من تحقيق تغيير في المزاج الشعبي والنمط الانتخابي، وكانت الترجمة الفعلية في الصناديق الانتخابية. فقد خرق المجتمع المدني للمرة الأولى منذ نحو 10 سنوات الستاتيكو السياسي القائم في بيروت الاولى، الأمر الذي يفترض أن يدفع كل الأحزاب السياسية ومرشحيها الى إعادة النظر في طريقة عملها وتحالفاتها، إذ لا يمكن تجاهل هذه الأرقام بعد اليوم.