كان يمكن أن تكون كارثة انفجار المرفأ آخر ما يعيد تذكير القاطنين في محيطه بغياب الدولة عن حياتهم. لكنها – على ما يبدو – لن تكون كذلك. فبعد أربعة أشهرٍ من الانفجار، ومع «انفجار» الشتوة الأولى في الأحياء التي لم تخرج من أضرارها بعد، استرجع الناس حكايتهم مع الدولة الغائبة. إذ غرقت بيوت هؤلاء بمياه الأمطار، وانهارت بعض البيوت جزئياً كبيت حنا متري التراثي في الأشرفية، فيما بعضها «أسلم الروح» تماماً كالمبنى الذي انهار قبل أيامٍ في منطقة المدور. كل ذلك يحدث، فيما «الدولة« ضائعة في كيفية تصريف ركام المرفأ!
قبل أسبوع، سقط مبنى من طبقتين في منطقة المدوّر. عجز عن الصمود أمام الشتوة الأولى، فانهار تحت زخّات المطر. لم يكن ثمة شكّ في أنه سيقع، بعدما استحال نصف بيتٍ من جراء انفجار المرفأ في الرابع من آب. بعد الانفجار، تصدّعت أساسات المنزل. سقطت أعمدة، فيما بقيت أخرى نصف معلقة وطارت جدران. هكذا، كان السقوط متوقّعاً. ولحسن الحظ، لم يسقط ضحايا، إذ غادره المستأجرون بعد إجراء الجيش مسحاً للمنطقة، صنّف بموجبه المبنى «آيلاً للسقوط».
عندما وقع المبنى، كان المستأجرون – وهم في غالبيتهم عمال في مرفأ بيروت – يتفرجون على سقوطه. لم يستطيعوا أن يسحبوا من بين الأنقاض شيئاً. خرجوا من هناك بثيابهم فقط، ومذّاك «منعنا الجيش من الدخول»، يقول أحد العمال، ويضيف متهكماً: «إجا الجيش أكّس المبنى منذ ثلاثة أشهر، وقبض مالك المبنى تعويضاً، ثم تُرِك البيت بلا تدعيم ولا حتى هدم لتأتي العاصفة ويسقط وحده»! على مقربة من المستأجرين القدامى، كان عمال في محل النجارة المواجه للمبنى المنهار يروون مشاهداتهم. لكنهم بدوا كمن تأقلم مع الانهيارات، التي تحوط بهم. فعلى حائط مركز عملهم كان قد سقط قبل فترة مبنى متصدّع، وفي الحي الخلفي، ينتظر هؤلاء سقوط أحد المباني أيضاً. على مقربة منهم، يقف جورج، وهو الذي كان يعمل في الفندق المجاور الذي أفرغه الانفجار من نزلائه. كان يقف متفرجاً على رفع الردم من المبنى المنهار حديثاً… وشاهداً، كما شهد في الرابع من آب، على الانهيار المدوي في المنطقة. يشير بإصبعه إلى البيوت التي اقتربت من نهايتها والتي يعدّ منها الكثير في الحي، كما في الأحياء التي طاولها الانفجار من الرميل إلى الكرنتينا إلى الخندق الغميق وغيرها.
هكذا، هي الحال في تلك المناطق، ومنها المدوّر، المنطقة التي نالت نصيبها من الدمار، ضريبة التصاقها بـ«باب» المرفأ. انقلبت الحياة، هناك، رأساً على عقب بعد الانفجار. معظم الناس الذين كانوا يقطنون في المنطقة باتوا اليوم مهجّرين، فيما البقية يعيدون بناء حياتهم في ما تبقّى من بيوتهم. من بين هؤلاء كمال، الذي يقطن اليوم في بيتٍ بنصف سقف، بعدما تشقّق النصف الآخر. خلال الشتوة الأخيرة، دخلت المياه إلى غرف المنزل من السطح. لا يملك الرجل كلفة ترميم السطح. يتذكر اللحظة التي تشظّى فيها سطح البناية. يومها، لم يعرف كمال «من أين تأتي الضربات». في لحظةٍ واحدة، انتهى كل شيء. بعد هدوء العاصفة، تذكّر «كيف طبقت هنغارات المرفأ على الأرض»، معيداً في الوقت نفسه رسم شكل الحي الذي يسكنه بعدما تحولت عدة مبانٍ إلى ركام، منها «البناية اللي كانت مقابيلنا بوجه المرفأ». لولا تلك البناية، يقول: «لكنا اليوم شهداء». في بيت كمال، لم يسلم شيء من الانفجار، لا السقف ولا الشبابيك ولا الأبواب ولا الحيطان.
لم تجر وزارة الأشغال ما يمكن أن «يردّ» كارثة إضافية عن الأحياء التي دمّرها الانفجار
في تلك الفترة، جاء الجيش ومهندسون وجمعيات لتقدير الأضرار. «كل ما استطعنا تحصيله بمساعدة بعض الجمعيات تغيير زجاج النوافذ والأبواب، وما زال ينقصنا أَقفال الأبواب». ليس كمال وحيداً في معاناته. يشكو الناس هناك من المساعدات التي أتت لمتضررين من دون آخرين. وإن كان هؤلاء لا يزالون ينتظرون تعويضاتهم وفقاً للمسح الذي أجري لبيوتهم، إلا أنهم باتوا يشكّون اليوم في تحصيل شيء. وقد زاد يقينهم اليوم مع العاصفة الأولى التي دخلت بيوتهم.
ثمّة غياب واضح للدولة هناك. غالباً، لا يتذكر الناس هذا الغياب، ولكنه سقط فجأة عليهم مع انفجار المرفأ، حيث وجدوا أنفسهم وحيدين. فما عدا المسح الذي قام به الجيش بالتعاون مع عدد من الفرق الهندسية والتعويضات التي وُزّعت، والتي لا يعرف كثيرون وفق أية آلية صُرفت، لم تعد الدولة إلى هناك. وقد عوّضت هذا الغياب الفرق المتطوعة، سواءٌ فرق المهندسين التابعين لنقابة المهندسين أو الـ»freelancer» والناشطون والجمعيات المدنية. ولئن كان البعض من تلك المبادرات فاعلاً، إلا أن ما كان يضعف من فعّاليتها، أنها كانت «فرداوية»، بلا تنسيق.
مع ذلك، يحلو للناس أن يذكروا «محاسن» الجمعيات التي سدّت بعض الحاجة. نافذة من هنا. باب من هناك. تدعيم حائط. ترميم. «كلّو منيح»، يقول العم سمير. اختبر هذا الأخير كيف تُرك الناس وحدهم عندما «نزلت الدني». يلفت السبعيني الى أن غالبية الطبقات الأرضية دخلت إليها المياه، بعدما فاضت الطرقات بسبب المجاري التي سُدّت من الركام. هذا التفصيل الأخير هو جزء من الحكاية الأكبر. حكاية المجاري ووزارات الدولة. فبعد أربعة أشهرٍ على الانفجار لا تزال الردميات في أرضها، لم يُتخذ القرار بالمكان الذي ستُنقل إليه، ولم تجر وزارة الأشغال العامة والنقل ما يمكن أن «يردّ» كارثة إضافية. وفي هذا الإطار، دعت الهيئة اللبنانية للعقارات وزارة الأشغال العامة والبلديات الى «تنظيف أقنية تصريف المياه الشتوية للشوارع العامة والأزقة من الأتربة والنفايات التي تساهم بقلب المياه بشكلٍ عكسي». سبقت تلك الدعوة بروفا العاصفة التي أغرقت الكثير من البيوت بالوحول.
بحسب الهيئة اللبنانية للعقارات، تسبّب انفجار المرفأ بتضرّر ما لا يقل عن 200 ألف وحدة سكنية، من الأشد تضرراً إلى الأضرار العادية. وتُصنّف بعض تلك الوحدات بالخطرة، منها «51 بناء تحت خطر السقوط و41 بناء متضرراً بشكلٍ كبير»، على ما يؤكد محافظ مدينة بيروت، مروان عبود، استناداً إلى التقرير الأخير الذي صدر وفقاً للمسح الذي أجرته محافظة مدينة بيروت وبلديتها.
بعض هذه المباني لا يزال مأهولاً لعدم قدرة ساكنيه على إيجاد مكانٍ بديل، وبعضها الآخر ينتظر عاصفة أخرى كي ينتهي. وفي كلتا الحالتين، ثمّة مسؤول واحد هو الدولة التي تترك هؤلاء لقدرهم. وفي الوقت الذي أعلنت فيه قيادة الجيش عن بدء توزيع دفعة من المساعدات المادية على 17% من المتضررين من انفجار المرفأ، إلا أن ذلك لا يسدّ جزءاً من حاجة الناس التي سُويت بيوتهم بالأرض. لا يطلب القاطنون في قلب الركام سوى أن تتحرك الدولة قبل موسم العواصف، فذلك بالنسبة إليهم أفضل بكثير من الاستنفار في لحظة السقوط.