لم تشِ جلسة انتخاب الرئيس ميشال عون في مثل هذا اليوم لسنة خلت، من الدورة الرابعة للاقتراع، بأن العهد الجديد ـــ في ظل الرئيس الاكثر اثارة للجدل ـــ مقبل على استقرار داخلي وتسوية سهلة، سلمية، تعذرت منذ عام 2005
منذ اول رئيس في ظل اتفاق الطائف عام 1989، تنتخب للرئاسة الاولى مواصفات هي في اهمية انتخاب صاحبها. جاء بالرئيسين الياس هراوي واميل لحود النفوذ السوري، وبالرئيس ميشال سليمان تسوية الدوحة اذ سمته في الخارج قبل انتخابه في الداخل.
انتخب الرؤساء الثلاثة بلا منافسين. بدوره الرئيس ميشال عون انتخب بلا منافس. الا ان جلسة الاقتراع له ابرزت ضراوة غير مسبوقة: انتخابه من الدورة الرابعة بسبب تلاعب متعمد في اوراق التصويت بغية ايذائه الشخصي والسياسي، وتحضير عهده لصعوبات مرتقبة، واظهاره ضعيفاً منذ الصندوقة. قبله، وحده الرئيس سليمان فرنجيه انتخب عام 1970 من الدورة الثالثة، لكن في ظل منافسة ضارية بين مرشحين ونهجين متباعدين.
بدا الفوز من الدورة الرابعة الطريقة الوحيدة لتوجيه رسالة سلبية الى الرئيس من معارضيه. لم يسعهم مواجهته بمنافس وازن، ولم يكن في وسعهم الحؤول دون انتخابه. اكتفي بطريقة انتخاب غير مألوفة كي يؤكدوا له ان الرئاسة شيء وحكم البلاد شيء آخر.
ليس انتخاب عون رئيساً هو الذي نجم عن التسوية السارية المفعول منذ اقل من سنة، بل تأليف اولى حكومات عهده.
ظهر انتخابه اقرب الى مقايضة: عندما جارى الرئيس سعد الحريري دعم ترشيحه اصبح رئيساً حتمياً. جاء اليه بتأييد سنّي كان ينقصه، وان هو يحظى بتأييد مسيحي واسع، وبنصف تأييد شيعي بسبب معارضة الرئيس نبيه بري، وبتحفظ معظم التمثيل الدرزي الناشيء عن معارضة النائب وليد جنبلاط. كان خارج الصف المسيحي فريقان وازنان هما حزب الكتائب والنائب سليمان فرنجيه. في مقابل عون رئيساً للجمهورية، الحريري رئيساً للحكومة. من دون الحريري لا وصول الى بعبدا، ومن دون عون لا عودة الى السرايا. لم تحصل التسوية الا من خلال اولى حكومات العهد التي قال الرئيس انها ليست اولى حكومات عهده، وفي ظنه انه مقبل على انتخابات نيابية بعد اشهر قليلة، سرعان ما قوّضها تمديد ولاية مجلس النواب 11 شهراً.
وحده تأليف حكومة الحريري ارسى التسوية النافذة حتى الآن: بعدما كان حزب الله عصب انتخاب عون، اضحى بري عصب تأليف الحكومة. فإذا هي على صورة ائتلاف القوى جميعاً، مؤيدي الرئيس ومعارضيه في آن ما خلا الذين ارتضوا ان يكونوا خارجها.
ليست مفارقة ان مجلس الوزراء الذي عقد في سنة 50 جلسة، لم يُضطر الى التصويت على اي بند، فأقر مشاريع القوانين بالتفاهم المسبق. لم تقتصر القاعدة على تبرير ما قالت به المادة 65 من الدستور بأولوية التوافق على التصويت، بل جارت التسوية السياسية القائلة بمناقشة المتفق عليه واستبعاد المختلف عليه. حاول الرئيس اللجوء مرة الى التصويت ابان مناقشة مشروع موازنة 2017، مقترحاً تعليق المادة 87 كمخرج دستوري لتجاوز اقرار قطع الحساب. بعد انقسام مجلس الوزراء الى فريقين، ارتأى التصويت ــ خصوصاً وان المادة 76 تنيط به اقتراح تعديل الدستور ــ فتمنى عليه معظم الوزراء صرف النظر عنه تفادياً لاقتراح الرئيس التعديل، وفي الوقت نفسه الحؤول دون الذهاب الى تصويت للمرة الاولى في مجلس الوزراء بغية تكريس استمرار التوافق. عكس هذا الموقف جدية حرص افرقاء الحكومة جميعاً على تسويتهم السياسية وعدم الاخلال بها.
مقدار ما اعطت التسوية تلك الافرقاء حقوقاً مباشرة في المشاركة الفعلية في ادارة الحكم، اذا السلطة تدار بمعادلة سياسية حساسة، اشبه بخيط يجمع حبات سبحة، اضاف رئيس الجمهورية، اكثر من اي من اسلافه منذ اتفاق الطائف، الكثير المهم مما افتقر اليه اولئك:
1 ــ كتلة وزارية من تسعة وزراء يساوون ثلث مجلس الوزراء تقريباً، يضعون في يد الرئيس مفتاحاً مهماً لاسقاط الحكومة. اذ لا يعود ينقصه سوى وزيرين من حلفائه كي يمسك بالثلث + 1 في نصاب التئام مجلس الوزراء كما اطاحة الحكومة. قد لا يحتاج رئيس الحكومة الى مثل هذا السلاح اذ تنيط به المادة 69، باستقالته، اسقاطها. على مرّ عهودهم، عوّل اسلافه الثلاثة على وزراء حلفاء او على عدد قليل منهم يكاد لا يُحسب له حساب.
2 ــ كتلة نيابية كبيرة تأتمر به تضم 21 نائباً لا يسعها بالضرورة تعطيل نصاب انعقاد البرلمان، الا انها تمنح الرئيس قوة مؤثرة كان رؤساء ما قبل اتفاق الطائف يتكلون على زعماء حلفاء لهم لمدّهم بها، او رؤساء ما بعد الاتفاق في ظل النفوذ السوري. لم يحظَ اي منهم بكتلة نيابية تمثل عصبية الرئيس وحزبه ما خلا اولئك الذين راحت دمشق تجرجرهم اليه. كانت في الواقع كتلها وغالبيتها هي ليس الا.
3 ــ فعل ما لم يُعطَ اسلافه اياه. تسميته قائد الجيش وتعيينه في مجلس الوزراء خارج اي مساومة او تسوية. لم يُفرض عليه القائد، كهراوي ولحود حينما اختاره لهما السوريون، ولم يُعيّن بتصويت في مجلس الوزراء على غرار العماد جان قهوجي. سواء احتسب تعيين قائد الجيش جزءاً من سلة محاصصة عسكرية وامنية ام لا، عادت الصلاحية الى رئيس الجمهورية للمرة الاولى منذ عام 1982. حُصرت به، فأطلق يد العماد جوزف عون في تعيين مدير للمخابرات هو العميد انطوان منصور، لا يسع اي وزير، كما من ذي قبل، زعم فضله عليه واحياناً على القائد نفسه.
4 ــ في معزل عن انجازات تُعزى الى الرئيس كرأس هرم الدولة، الا انها تُعزى الى المعادلة الناجمة عن التسوية السياسية كون اياً منها لم يُقر بلا مراعاة مصالحهم جميعاً وحساباتهم السياسية كقوانين الانتخاب وسلسلة الرتب والرواتب والموازنة والضرائب ومراسيم النفط والتعيينات والتشكيلات الادارية والديبلوماسية والقضائية والعسكرية والامنية، لم يفسح في المجال كي يُنظر اليه على انه رئيس توافقي. في الاشهر الاخيرة من ترشحه رغب في ان يكون توافقياً يلتقي الجميع على انتخابه. بعدما امسى في الحكم لا يتصرّف كرئيس توافقي ــــ هو الذي نبذ التسمية ومواصفاتها في العهد السابق ــــ بل كرئيس طرف، له خياراته وسياساته، يختلف فيها عميقاً عن الحريري من غير ان يتسبب خلافهما في تقويض الحكومة. تكمن هنا قوة التسوية ودور الرئيس في ان التغاضي عن تناقض المواقف من سلاح حزب الله اضحى احد اسرار الاستقرار الداخلي والتضامن الحكومي، بشهادة رئيس الحكومة نفسها، من غير ان يتزحزح رئيس الجمهورية عن دعمه غير المشروط له.