منذ نحو ثلاثة عقود، نسمع ونقرأ عن موضوع العجز، في قيودنا وسجلّاتنا، وموازنتنا، وأرقامنا، لكن هذا الأخير كان عنواناً للكابوس، وحبراً على ورق، من دون أي تأثير على حياتنا اليومية لأنّ هذا العجز المستدام كان يُسدد ويعالج بديون داخلية وخارجية، كانت بنحو نصف مليار بعد خروجنا من الحرب، ووصلت إلى الـ 100 مليار حين تسلّم ملوك الحرب الإقتصاد والمال العام.
إعتاد المواطنون أن يسمعوا عن هذا الموضوع الشائك من دون أن يشكل خطراً أو تغيّراً على معيشتهم. أما اليوم فقد تغيّرت المعادلة ووصل العجز إلى الكارثة الحقيقية، لأنه لا يوجد وسائل لتمويله، وسيبدأ النقص في كل الحاجات يدق الأبواب.
للتذكير لم يكن لدينا أي توازن مالي بين المدخول والمصروف، منذ أكثر من 30 عاماً، لكن اعتادت الدولة والسياسيون على صرف أضعاف قدراتهم، إلى جانب الإستفادات الخاصة والفساد المستشري والمشاريع الوهمية، والأرباح الفادحة، وتقاسم الحصص والمكاسب في ظل صرف مليارات الدولارات من خارج الموازنات طوال ثلاثة عقود. هذه السياسة الدراماتيكية أوصلت البلاد إلى دين عام تخطّى الـ 100 مليار، لكن الكارثة الكبرى تفوق الأرقام، وهي أن أصبحت العادة البسيطة هي صرف عشوائي من دون خطط ولا استراتيجيات، لأن الخسائر والعجز كانا فقط في السجلات، وكانا يُدفعان في الحقيقة من جيوب الناس والودائع من دون حسيب ولا رقيب ومن دون أن يُدرك أحد ما يحصل في الدهاليز عن هذه الجريمة المالية والنقدية.
للتذكير أيضاً، كان هذا العجز يُموّل بواسطة سندات دين داخلية بالليرة اللبنانية، وبسندات دين خارجية (اليوروبوندز) والتي كانت جميعها تؤمّن فوائد مرتفعة وجذّابة، فكلما كانت تزداد المخاطر كلما كانت تزداد الفوائد، وتُجذب الأموال لصرفها عشوائياً، حتى فهمنا أن معنى الدين في الدولة كان بالحقيقة السرقة والفساد.
كما كان العجز يُموّل عبر المؤتمرات الإستثمارية الدولية، والتي كانت تنظّم من أجل لبنان، مثل مؤتمر باريس 1 و2 و3، روما، ستوكهولم، بروكسل ولندن التي كانت تعوّل عليها من جديد هذه الدولة الفاشلة لتسدد العجز، وكانت أيضاً تشجع استمرار الفساد والسرقة من دون أي إصلاح ومراقبة وملاحقة. إضافة إلى ذلك، لن ننسى أنه كان هناك بعض الأعوام الذهبية من النمو والإستثمارات مثل العام 2009 حيث وصل النمو إلى 8 %. فكان العجز يمتصّ من الدورة الإقتصادية والإستثمارات الخارجية ومن العجلة التجارية.
أما اليوم، وفي ظل أكبر أزمة مالية واقتصادية ونقدية في تاريخ العالم، وإنهيار القطاع المصرفي، وتدمير الثقة، إن مصادر التمويل المذكورة لم تكن صالحة:
لا تستطيع الدولة إصدار أي سندات لانعدام الثقة الداخلية والدولية، وبعد التعثُّر المالي الذي هو إفلاس مبطن، وتصنيفنا الإئتماني الدولي إلى رتبة RD-RESTRICTED DEFAULT.
إضافة إلى ذلك، أوضح حاكم المركزي بالإنابة انّ هناك توقيفاً نهائياً لاقتراض الدولة. أما عن البلدان المانحة، فليس وارداً تمويل سنت واحد لما يُسمّونها عصابة الفساد والفشل، فالحل الوحيد الدولي هو عبر صندوق النقد الدولي IMF، وشروطه الصارمة وتفاوضه المعقد، وإذا نجحنا فتمويله لن يتجاوز الـ 3 مليارات حداً أقصى في السنوات الثلاث المقبلة.
أما الدولة اللبنانية، فلا تطبع دولارات لسوء الحظ، لكن تطبع بكثرة ليرتنا الوطنية، التي انهارت وخسرت قيمتها، فإذا لجأت الدولة إلى زيادة الكتلة النقدية، لشراء العملة الخضراء، فهنا ستصبح عملتنا أقل من حبر على ورق، أما إذا لجأت الدولة إلى تمويل عجزها بواسطة الضرائب فهنا الكارثة الأكبر، لأن الضرائب في لبنان، حسب معرفتنا وخبرتنا، لا تُجبى، بل تخفف مداخيل الدولة، وتُفاقم التهريب، والتبييض والترويج، وستقتل ما تبقى من النمو والإستثمار. وإذا كان مشروع الضرائب جدياً، فلماذا الأيادي السود تمنع الجباية الإلكترونية للضرائب، وتتابع إقفال الدوائر العقارية، والمعاينة الميكانيكية وغيرها، والتي يُمكن أن تضخ بعض الأوكسيجين لهذه الدولة الفاشلة.
في المحصّلة، إن الحقيقة المؤلمة تتمثّل في انّ العجز الذي كان فقط في قيودنا الرسمية، أصبح اليوم في حياتنا اليومية، ولا يوجد أي سبل لتسديده، وتمويل أقل الحاجات الإنسانية للتعايش والصمود. فبعد 30 عاماً من النهب والفساد، وبعد ثلاثة أعوام من إدارة أكبر أزمة دولية، وصل السكين الحاد إلى الرقبة، ونتّجه نحو عدم قدرة الدولة على تمويل ليتر واحد من الفيول، وساعة كهرباء، وحبّة دواء، وكتاب للتعليم ودولار للإتصالات. ولا شك في أن مسلسل التدمير الذاتي واستراتيجيته يتكاملان لذل الشعب اللبناني على نحو أكثر، وفصلنا نهائياً عن العالم المتحضّر.