التشاؤم الذي بدأ يسيطر على النتائج المتوقعة للمفاوضات الرسمية مع صندوق النقد الدولي، لا يرتبط بالقلق حيال رفض الصندوق تقديم مساعدة مالية للبنان، بل تمتد جذوره الى ما بعد المفاوضات، لأنّ الانقاذ لا يتوقّف على قرار الصندوق، سواء وافق على منح مساعدة أم لا.
عكست «الرسالة» التي وقّعتها شخصيات وجمعيات ومؤسسات الى صندوق النقد الدولي، وطلبت فيها عدم إقراض الدولة اللبنانية المال قبل تنفيذ سلسلة من الخطوات والاصلاحات، القلق السائد حيال تفويت فرصة الانقاذ. وهي شبيهة برسائل وجّهتها قوى معارضة في اكثر من دولة تطلب فيها عدم إقراض السلطات فيها، لأنها فاسدة. واحدة من هذه التجارب، عرفتها روسيا بعد سقوط الشيوعية ومرور البلد في فترة انتقالية مضطربة، إرتفع خلالها مستوى الفساد الى سقوف غير مسبوقة. في حينه، وجّهت قوى روسية معارضة رسائل استغاثة الى الدول الصديقة لوقف إقراض الدولة الروسية، لأنّ الاموال تُسرق وتُهدر، وتُسَجَّل ديون على الاجيال المقبلة في البلاد.
ما يجري في لبنان شبيه بالتجربة الروسية في ذلك الوقت. ومن طالب في الاساس بالتعاون مع صندوق النقد لتنفيذ خطة إنقاذية، لم يكن يراهن على الاموال التي قد يقدمها الصندوق، بل على الشروط القاسية (الوصاية) التي يحتاجها البلد لتنفيذ الاصلاحات للخروج من الدوامة في السنوات المقبلة.
المؤشرات التي قدمتها الحكومة حتى الآن غير مشجعة، لا على مستوى الأداء، ولا على مستوى الخطة الاصلاحية التي عرضتها على الصندوق.
على مستوى الاداء الداخلي يمكن تسجيل ملاحظات متعددة الجوانب، من أهمها:
أولاً – الفشل في كسب الثقة المرتبطة بقدرة الحكومة على اتخاذ القرارات.
ثانياً – تقديم نموذج هجين للاستقلالية المُفترضة، بحيث صار أداء البديل أسوأ من أداء الأصيل.
على مستوى الخطة الانقاذية، وبالاضافة الى علامات الاستفهام القائمة حول الارقام، وطريقة توزيع الخسائر، وخلو الخطة من رؤية اقتصادية لمواكبة التصحيح المالي المطلوب، تبرز مسألة خطيرة تتعلق بمنح 5 رخص مصرفية جديدة.
هذا البند في الخطة، يثير علامات الاستفهام، ليس لأنه غير واقعي، ويتناقض مع الفكرة التي روّجت لها الخطة لجهة الخفض القسري لعدد المصارف، وهو أمر مرفوض ايضاً، ولا علاقة له بالنظام الاقتصادي الحر، بل لأنه يحمل بذور فساد ومُحاصصة. ولا يبدو التبرير الذي قدمته الحكومة مُقنعاً بأنّ الثقة في المصارف القائمة تلاشت، وأنه لا بد من مصارف جديدة توحي بالثقة في الفترة المقبلة.
الواقع انّ هذا البند مشبوه، لأنّ الثقة التي تتحدث عنها الحكومة مرتبطة بأدائها وليس بأي قطاع آخر. ومن ثم لا بد من السؤال التالي:
من هي الجهات التي ستوافق على الاستثمار في مصارف جديدة، اذا كان التعاطي مع المصارف القائمة يتم على أساس الالغاء؟ فهل نتحدث هنا عن مستثمرين محليين ام أجانب؟
مع استبعاد أيّ استثمار أجنبي لأسباب تقنية تتعلق بالمعايير العالمية المتّبعة في هذا النوع من الاستثمارات، تصبح النقاشات محصورة بمستثمرين محليين. فمن هم المحظيّون الذين سيحصلون على هذه الرخص؟
هذا السؤال مطروح لأنّ المناخ الفاسد يوحي بأنّ المطلوب توزيع جوائز ترضية على المنظومة السياسية القائمة، وفق منطق المحاصصة الذي لا يزال سائداً، رغم انّ البلد دخل عصر المجاعة الحديثة، ومآسي الناس ستكون أكبر ممّا يتصورها المتشائمون. فمن هي الجهات المحظية التي ستنال 5 رخص مصرفية توازي قيمتها في الوقت الراهن حوالى مليار دولار؟ (200 مليون دولار للرخصة).
في الانطباع العام، لا تبدو مسألة الرخص المصرفية الخمس مختلفة كثيراً عن الرخص التلفزيونية التي جرى التوافق على توزيعها وفق نظام المحاصصة السياسية والطائفية. إنه نظام تقاسُم المغانم على حساب الناس.
مثل هذه الثغرات يستطيع أن يلاحظها خبراء صندوق النقد بسهولة. لكن لا يمكن الاعتماد على ضمير هؤلاء فحسب، للاطمئنان الى انّ الخطة الحكومية لن تمر كما هي. حسابات صندوق النقد تستند الى مبدأ تأمين ضمانات استرداد المال أولاً. وبالتالي، من مسؤولية السلطة اللبنانية ضمان الافادة من التعاون مع الصندوق لإنقاذ الاقتصاد وإنقاذ البلد، لا الاكتفاء بحسابات رقمية لإعادة القروض، ومن ثم التعرّض لانهيار اكبر وأعمق.
تجارب مؤتمرات باريس ماثلة في الأذهان، ولا أحد يريد تكرار هذه التجارب مع صندوق النقد، لأنّ السقوط بعد الحصول على قروض، أخطر وأعمق من الانهيار القائم اليوم. والمطلوب تغيير المشهد والمناخ جذرياً، وحتى الآن لا بوادر توحي بإمكانية حصول هذا التغيير.