المفترض أن هناك٬ إْن ليس إجماًعا فشبه إجماع٬ على أن الوضع العربي لم يمر بمثل حالة التردي هذه منذ نحو قرن بأكمله ومنذ انهيار الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى وظهور كل هذه الدول العربية «القُْطرية» التي تجاوز عددها العشرين دولة فتراجع الأهداف والتطلعات القومية وبخاصة مع نهايات القرن الماضي٬ القرن العشرين٬ أدى إلى انتعاش كل هذه الأمراض الطائفية والمذهبية والجهوية والقبائلية والعشائرية أيًضا٬ وهكذا فقد وصلت الأمور إلى كل هذا التردي الذي أغرى الطامعين والذين يعدون ويَّدعون أَّن لهم «ثارات» تاريخية قديمة لدى هذه الأمة التي لعبت أدواًرا رئيسية في حركة التاريخ في هذه المنطقة وفي العالم القديم كله.
والحقيقة أَّن الذين تصدروا مسيرة الدعوة القومية٬ وبخاصة في عقد خمسينات القرن الماضي وبعد ذلك٬ الذين رفعوا رايات الوحدة العربية٬ والذين مُّدوا نفوذهم الإقليمي٬ وحاولوا مده إلى دول «شقيقة» بعيدة وقريبة وطبقوا في هذا المجال تجارب فاشلة على غرار ما بقي يفعله معمر القذافي في كل الاتجاهات قد أَّدى إلى كم هائل من الإحباط واليأس وإلى تقلُّص الهم القومي وتلاشي كل القوى والأحزاب «الوحدوية» و«العروبية» كحزب البعث بكل أجنحته وانشقاقاته٬ وكحركة القوميين العرب٬ وكالحزب القومي السوري وكـ«الناصرية» أيًضا٬ ولعل الأسوأ والأخطر أَّن هذا التلاشي قد أخذ معه قناعات المواطن العربي وتطلعاته الوحدوية ليحل محلها انكفاء إقليمٌّي على الذات انتعشت في إطاره كل هذه الأمراض المذهبية والطائفية والجهوية والعشائرية والإقليمية!
ولهذا فإنها نتيجة كان لا بَّد منها أن نرى كل هذا التغُّول الإيراني٬ وكل هذه التجاوزات الإيرانية المتسلحة بنزعة إمبراطورية فارسية قديمة على الدول العربية البعيدة والقريبة٬ التي وصلت إلى حِّد الاحتلال المباشر المقنع ببراقع الجيوب المذهبية والطائفية «العميلة» لدولتين عربيتين رئيسيتين هما: العراق وسوريا٬ والهيمنة على دولة ثالثة واستهداف اليمن الذي كان ذات يوم بعيًدا سعيًدا واستهداف دول الخليج العربي كلها٬ وعدم استهداف حتى ولا دولة واحدة لا كبيرة ولا صغيرة.
وبالطبع فإن هذا كله قد جعل القضية الفلسطينية٬ التي من المفترض أنها قضية العرب الأولى٬ تتراجع كل هذا التراجع الموجع للقلب وجعل إسرائيل تتجَّبر كل هذا التجُّبر وتدير ظهرها لعملية الَّسلام التي كانت بدأت في مؤتمر مدريد الشهير في بدايات تسعينات القرن الماضي٬ التي مَّرت بمحطة «أوسلو» بعد ذلك وأصبحت٬ بعد محاولات وتجارب مريرة فعلاً٬ نسًيا منسًيا وفي آخر الاهتمامات العربية؛ نظًرا إلى أن العرب باتوا ينشغلون باهتمامات أخرى من بينها أَّن الثورة الخمينية٬ التي رَّحب بها وفرح لها بعضهم٬ قد ظهرت على حقيقتها الفارسية العدوانية والاستحواذية والتمددية.
ولعل الأسوأ٬ بعد انحسار التطلُّعات الوحدوية العربية وتلاشي الهموم القومية٬ هو غياب «الدوافع» العروبية اللهم باستثناء مجلس التعاون الخليجي الذي كان لا بد من التمسك به والحفاظ عليه رغم أن: «قوى الشد العكسي» لم تسمح له بالانتقال من هذه الصيغة التعاونية إلى الصيغة «الاتحادية» المنشودة؛ فـ«مجلس التعاون المغاربي» لم يبق منه إلا الاسم الذي تم سحبه هو أيًضا من التداول الشعبي٬ واقتصر ذكره والحديث عنه على المناسبات الرسمية المتباعدة٬ وهذا هو بالتأكيد ما جعل خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز يبادر أولاً تحت ضغط التحديات التي تواجه العرب كلهم إلى تشكيل وإنشاء: «التحالف العسكري العربي»٬ الذي بادر بقيادة المملكة العربية السعودية إلى انطلاقة: «عاصفة الحزم»٬ التي تصدت في الوقت المناسب للتدخل الإيراني في شؤون اليمن الداخلية٬ التي قطعت الطريق على انقلاب تعاون في إطاره علي عبد الله صالح و«الحوثيون» لإسقاط الشرعية اليمنية٬ ولحساب إيران التي كانت تعتقد أَّن تمددها سيصل إلى بعض دول الخليج العربي إْن ليس كلها٬ وأنها ستحقق حلم إنشاء الهلال الشيعي «الفارسي»٬ الذي أرادت أن يبدأ طرفه الأول بهذه الدولة العربية وينتهي طرفه الآخر بلبنان؛ حيث حزب الله أصبح جاهًزا لهذه المسؤولية الطائفية
طرفه الآخر بلبنان؛ حيث حزب الله أصبح جاهًزا لهذه المسؤولية الطائفية التي ما كان من الممكن أْنْيجرؤ أٌّي كان الحديث عنها لولا حالة التردي التي وصلت إليه الأمة العربية.
إن عاصفة الحزم بالنجاحات العسكرية والسياسية التي حققتها ليس في اليمن فقط وإنما في المنطقة كلها قد فتحت الطريق لهذا الإنجاز الهائل ولهذه الخطوة التاريخية الاستراتيجية في اتجاه أرض الكنانة مصر٬ التي لا حرب ولا سلام بالنسبة إلى العرب ولهذه المنطقة كلها بدونها٬ التي كانت سابًقا ولاحًقا.. والآن الجناح الثاني للأمة العربية مقابل الجناح الأول الذي هو المملكة العربية السعودية.
ولذلك وعندما يكون الوضع العربي يمُّر في حالة التردي المرعب هذه٬ وعندما يصبح العرب كشعوب وكدول يعيشون حالة التمزق الراهنة غير المسبوقة هذه٬ وعندما يكون الأشقاء المغاربة غارقين في مشاكلهم وإشكالاتهم الكثيرة٬ ثم وعندما يصبح العراق خارج دائرة الفعل العربية٬ وعندما تصبح سوريا مدمرة على هذا النحو٬ فإن الخطوة التاريخية التي أقدم عليها خادم الحرمين الشريفين قد جاءت كإنعاش للوجدان العربي وكبداية لمسيرة واحدة حًّقا لا بد من أن تنضم إليها دول عربية أخرى من بينها المملكة الأردنية الهاشمية التي كانت حاضرة بالتأكيد في كل اللقاءات التي جرت بين الملك سلمان بن عبد العزيز والرئيس عبد الفتاح السيسي٬ واللقاءات التي تطرقت إلى ضرورة مواجهة الإرهاب والقضاء عليه٬ وإلى ضرورة إنشاء قوة عربية مشتركة٬ فالأردن٬ الذي نقل ما جرى في القاهرة إليه ولُّي ولِّي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز في زيارة كريمة خاطفة إلى العقبة٬ يشكل جبهة التصدي المتقدمة إْن في اتجاه العراق وإْن في اتجاه سوريا؛ حيث هناك «داعش» الإرهابي٬ وهناك التدخل والتمدد الإيراني الذي اتخذ أبعاًدا احتلالية خطيرة باتت تهدد الأمة العربية كلها٬ ومن المحيط إلى الخليج.
وهنا وفي النهاية٬ فإنه لا بد من التأكيد أن هذه الخطوة الاستراتيجية الضرورية التي جاءت بعد عاصفة الحزم كان لا بد منها للِّم الشمل العربي المبعثر ولإيجاد إطار إسلامي يبدأ بتركيا التي ماَيْجَمُع العرب بها أكثر كثيًرا؛ مما يظن البعض أنه يبعدهم عنها٬ التي لا بد من تبديد كل ما بينها وبين مصر من غيوم سوداء٬ وهنا فإن المؤكد أَّن خادم الحرمين الشريفين بزيارته الأخيرة إلى هذه الجارة العزيزة الشقيقة سوف يبدد هذه الغيوم لتصبح طرق التكامل والتعاون بينها وبين أشقائها العرب سالكة وآمنة ولتصبح الأهداف المشتركة القريبة والبعيدة واحدة وموحدة.