لا يختلف اثنان على ان تداعيات الحرب السورية ضغطت على الاقتصاد اللبناني منذ العام 2011، ولا تزال. وفي غضون خمس سنوات، تراجعت كل المؤشرات الاقتصادية ربطاً بالوضع السوري، ووصل الوضع الاقتصادي والمالي الى مرحلة حرجة. لكن السؤال كيف يمكن ان يكون الوضع في السنوات الخمس المقبلة؟
ماذا يحصل اذا انتهت الحرب في سوريا غدا، وبدأت مرحلة جديدة في المنطقة؟ وهل لبنان جاهز اقتصادياً لاستقبال هذه الحقبة؟ وما هي الرهانات بصرف النظر عن النتائج العفوية التي قد يحملها السلام في الجوار؟
في مقارنة تستند الى وقائع سبق وشهدها البلد، يمكن استشفاف التوقعات. على سبيل المثال، بعد انتهاء الحروب الداخلية في مطلع التسعينيات، اعتمد الاقتصاد على ركيزتين اساسيتين:
اولا – ضخ الاموال في البنى التحتية للدولة، وتحضير الارضية لمرحلة جديدة.
ثانيا – التوسّع المالي للقطاع المصرفي اللبناني، وتحويل بيروت الى نقطة جذب مالي، خصوصا للرساميل اللبنانية في الخارج.
ترافق هذا التطور مع استعادة خجولة لانتعاش القطاع السياحي، بالاضافة الى جذب المزيد من الاستثمارات الاجنبية، خصوصا الخليجية والعربية منها.
في المرحلة الثانية، اي بعد العام 2005، وانتهاء حقبة الاحتلال السوري للبنان، وبعد حرب تموز 2016، مرّ البلد بما يُعرف بالتجربة الثانية، التي تلي حقبة الأزمات. وقد شهد مرحلة من الاستقرار النسبي، غذّتها نزعة داخلية الى استقرار سياسي مقبول.
في هذه المرحلة التي امتدت حوالي خمس سنوات، اعتمد الاقتصاد في نموه على الركائز الاساسية التالية:
اولا- زيادة التدفقات المالية الى البلد، سواء على مستوى ودائع مصرفية، او تحويلات توظيفية. وقد ساهم في هذا الازدهار الفائض المالي الانتاجي لدول الخليج العربي.
ثانيا- استمرار تدفق الاسثمارات الاجنبية، سيما الخليجية منها.
ثالثا – عودة القطاع السياحي الى عصره الذهبي، وارتفاع المردود السياحي مجددا الى ما يوازي العشرين في المئة من الناتج المحلي.
في عودة الى الوضع الراهن، فان السنوات الخمس الماضية تمثل الدورة السلبية في المعادلة.
وما «جمعه» الاقتصاد الوطني في خمس سنوات، «بذّره» في السنوات الخمس التالية. فهل ستكون الخمسية المقبلة الممتدة حتى العام 2021، بمثابة استمرار للخمسية السابقة، ام ان احتمال انتهاء الحرب في سوريا سيفتح افاقا جديدة؟ وما هي ركائز المرحلة المقبلة في هذه الحالة؟
في مراجعة لنقاط القوة التي استند اليها الاقتصاد بعد جولات الأزمات في السنوات العشرين الماضية، يُلاحظ ان هذه النقاط قد لا تتوفر في السنوات المقبلة، حتى لو انتهت الحرب السورية، ومنها :
أ – مسألة التدفقات المالية التي لن تنمو خصوصا من دول الخليج، الخزان الاساسي للاموال، بسبب تراجع اسعار النفط وانعكاسات هذا التراجع على مستوى الوفر النقدي.
ب – عودة الاستثمارات الخليجية تبدو ضعيفة بسبب الوضع المالي العام في الخليج، بالاضافة الى تأثيرات أزمة العلاقات.
ج – السياحة التي تعتمد في القسم الاكبر منها على الخليج، سوف تفتقد هذا الزخم ولو انها جاهزة للتحسّن النسبي، فور انتهاء عوامل الاضطراب والحرب الاقليمية.
بناء على هذه الحقائق، سوف يبحث الاقتصاد اللبناني عن ركائز جديدة للاقلاع مجددا، منها ما هو مؤجل وطويل الامد ولن نشهد تحقيقه في السنوات الخمس المقبلة، ومنها ما يمكن ان يكون سريعا، في حال تم التعامل معه بوعي ومسؤولية.
من الركائز المؤجلة، قطاع النفط والغاز، وهو قطاع قد يحتاج المزيد من الوقت والصبر، قبل ان يتحول الى قطاع مجدٍ، في ظل انخفاض الاسعار، واستمرار أزمات رسم الحدود وتقاسّم الحصص.
من الركائز التي أقلعت، لكنها تحتاج الى مواكبة، قطاع اقتصاد المعرفة. وفي هذا المجال، يبدو هذا القطاع مؤهلا اكثر من سواه ليكون الحصان الرابح في الرهانات الاقتصادية في السنوات المقبلة.
وقد أطلق شرارة هذه الركيزة، واعطاها الدفع اللازم حاكم مصرف لبنان رياض سلامة من خلال اطلاق صفارة البدء في افتتاح عصر اقتصاد المعرفة من خلال التعميم الوسيط الرقم 331، الذي أصدره في آب 2013. وفي خلال اقل من ثلاث سنوات أعطى هذا القطاع نتائج مميزة.
من المعروف ان المعطيات المتوفرة في لبنان تتيح له الريادة في هذا المجال، ومن اهم تلك المعطيات العنصر البشري المتفوق في المنطقة العربية، والناتج بجزء منه من المستوى التعليمي المميز بدوره في المنطقة العربية.
بالاضافة الى شبكة علاقات لبنان في التواصل مع المنطقة والعالم. لكن، وعلى رغم أهمية دور مصرف لبنان الذي أخذ على عاتقه تأمين هذه النقلة، الا ان هذا الدعم لا يستطيع ان يصل الى المستويات المطلوبة من دون مواكبة رسمية من بقية اجهزة الدولة.
هذه المواكبة تشمل ما يُعرف بالحكومة الالكترونية، القوانين الاضافية التي تسهل الاستثمار والانتشار، خصخصة بورصة بيروت والانتقال بها من العصر الرسمي البليد الى حقبة المبادرة الفردية التي تجعلها قادرة على عكس الاقتصاد على حقيقته. تطوير قطاع الاتصالات، لمواكبة تطور قطاع المعرفة.
الركيزة الثانية المتوقعة للنمو تتعلق بدور لبنان كمنصة لاعادة الاعمار في سوريا. وهذا الامر يحتاج الى متابعة دقيقة لئلا تختلط الاوهام بالوقائع، ولكي يتم اتخاذ الاجراءات الكفيلة بتحويل البلد الى ممر الزامي مجدٍ بالنسبة الى كل الطامحين في المشاركة بورشة اعادة الاعمار.
يحتاج البلد اليوم الى خطتين: خطة خمسية تأخذ في الاعتبار احتمال استمرار الحرب في سوريا. وخطة خمسية ثانية تفترض ان الحرب السورية قد تنتهي غدا. وفي النتيجة، القاسم المشترك بين الخطتين سيكون دعم الاستثمار في اقتصاد المعرفة العابر للحدود، والقادر على النمو، حتى في الظروف الصعبة.