IMLebanon

خمسة مشاهد مسيحية برسم الحريري

في مشهد مسيحي أول، سأل صحافي في بيروت زميلاً له في عكار عن أحوال المنطقة هناك، بعد أحداث عرسال الأخيرة في 2 آب الماضي. ماذا عن أخبار التسلح وشائعات الهلع وحكايات النزوح المستتر والفرز المقنّع؟ فأجابه الزميل: الاستعدادات قد أنجزت بالكامل. وجهوزية السكان باتت مكتملة. كل عكاري من هذه الجهة، لم يكن يملك بندقية حربية، اشترى اليوم واحدة، حتى ولو كان عمره عشرة أعوام. وكل عكاري من الجهة الأخرى، لم يكن يملك جواز سفر، استحصل على واحد، حتى ولو كان حديث الولادة!

في مشهد مسيحي ثان، كان أحد الوسطاء العقاريين يروي في مجلس مهتم، آخر أخبار السوق. قال إن سعر المتر المربع الواحد على طريق ضبيه البحرية، بات أكثر من عشرة آلاف دولار أميركي. أي أن قطعة الأرض التي مساحتها ألف متر مربع، يمكن أن توازي سعر مليوني متر مربع، في المناطق المسيحية التي يهجرها أهلها في البقاع الشمالي، ويبيعونها لأول شار، قبل اللجوء إلى غيتوات الإسمنت المكتظة، بين نهر الموت ونهر الكلب وسائر مارونستان المحيطة بالنهرين. علماً أن المسافة الزمنية للانتقال من طبرجا إلى نهر بيروت باتت أطول من المدة اللازمة للذهاب من القاع ـ مثلاً ـ إلى الأشرفية. وعلماً أن أوقاف الكنيسة ـ بكل فروعها، الشرقية والغربية والإنجيلية وحتى «الكيوانية» ـ في المنطقة الساحلية المقصودة، تكاد تشكل 26 في المئة من جغرافيتها. أي أنها يمكن أن توازي ثمن محافظة البقاع بكاملها، على أكثر من ضعف. لكن طبعاً، يستحيل إقناع الناس بالصمود في قراهم، فكيف بترك الساحل والعودة إليها. إذ لا جمّيزة هناك، ولا مونو، ولم يسمعوا بعد بالكينووا، رغم الأفكار المفرحة عن محاولات زراعة هذه النبتة اللاتينية، في جبال العنفوان اللبناني!

في مشهد مسيحي ثالث، كان ضابط متقاعد من الجيش اللبناني، مسيحي عنفواني أيضاً، ينظّر للأسباب التي تحول وتمنع وتحظّر حصول جيشه على هبة السلاح الإيراني. هي الهبة التي جاءت أصلاً نتيجة دراسة إيرانية لحاجات الجيش بعد معركة عرسال. وهي التي وُضعت بعد تحديد دقيق لتلك الحاجات تقنياً وعملانياً. الذخائر، والأسلحة، وصواريخ الطائرات ذات الثمن المرتفع، ومعدات الاتصال والتشويش… كلها أنجزت في طهران، ووضعت في دراسة مكتملة. وأضيف إليها الشق القانوني، الذي خلص إلى اقتراح أن تقدم كلها مجاناً للجيش. هبة بالكامل. من دون أي مقابل أو التزامات أو مترتبات أو تعهّدات. فلا تكون بالتالي خاضعة لأي عقوبات غربية، يمكن أن يتذرع بها أي سياسي لبناني وطني فذ. لكن الضابط المتقاعد نفسه وجدها: لبنان متحالف مع دول الاعتدال الخليجي السني. وهذه الدول على خصومة مع طهران. ولذلك يجب حرمان الجيش من كل ما يأتي من إيران، كرمى لعيون خليجية!

في مشهد مسيحي رابع، كان مرجع روحي كبير يتباسط مع زواره حول أوضاع البلاد ومخاطر التكفيريين وتحديات الإرهاب الآتي من صوب الشرق. سكت لحظة قبل أن يكشف بشفافية كاملة: كل المسيحيين يقولون اليوم إنه لولا وجود حزب الله، لكانت «داعش» في جونيه. لكن كلاماً كهذا لا يمكن قوله علناً، لا بل أحياناً كثيرة، تفرض اعتبارات «الصح سياسياً»، أن نقول عكسه، حتى ولو كنا ندرك أن العكس غير صحيح!

في مشهد مسيحي خامس وأخير، يلتئم فريق من الباحثين في مكان بعيد عن بيروت. بينهم المؤرخ والإحصائي والاقتصادي والمالي والإداري والطوبوغرافي والدستوري والقانوني… أمامهم ملف كبير: كيف ننجز دراسة مكتملة عن لبنان فدرالي، لتكون جاهزة حين يفرض الأميركي هذا الحل على كل المنطقة. أحدهم يقول مبتسماً بسخرية: أي فدرالية؟! تقسيم بالحد الأدنى. أصلاً هي حدود لبنان الكبير باتت مرسومة بزحمة السير. لم يعد يلزمها إلا حزام واقعي، حين يصير الواقع أمراً مفروضاً. كل ما عدا ذلك كذب ودجل، يقول الأكاديمي العتيق. كلهم مجمعون على رحيلنا. منهم من يريده ذبحاً مثل «داعش»، ومنهم من يريده رمياً بالرصاص مثل «النصرة»، ومنهم من يريده بالقانون، من قانون تسجيل القاصر وقوانين الأحوال الشخصية كما هي الحال في كل الدول العربية، إلى قانون الانتخاب وقانون التملك للأجنبي وقانون استعادة الجنسية، كما هو الحال في لبنان… وصولاً إلى من يريد اقتلاعنا بقانون سوليدير أو قوانين السوق والصرف والقطع. غير صحيح هذا الكلام؟ بل أكثر من صحيح. إقرأوا كلام هيئة العلماء المسلمين، الذراع المدنية للصراع. الهيئة التي حوّلت وجه طرابلس لبنان من عبد المجيد الرافعي إلى سالم الرافعي، مع كل الاحترام للشخصين. واسألوا كل المعنيين عن مضمون كلامها، من الحكوميين الجدد الى الروحيين الجدد. موافقون كلهم بصمت. تماماً كما المرجع المسيحي مدرك بصمت.

خطير جداً كل هذا الكلام المستور. وأخطر ما فيه أنه يقال ويفكّر فيه ويعتمل ويتفاعل. قد لا يهتم سعود الفيصل لمضمونه. لكن على سعد الحريري أن يهتم. وأن يدرك أن عليه مهمة تاريخية، أوانها داهم وأجلها محدود: إعادة تأسيس ميثاق لبنان الكبير، كما فعل رياض الصلح، قبل أن يسقط الميثاق ولبنان وكل ما هو كبير فيه.