تستقبل كوكبة البلدان العربية التي شهدت انتفاضات ربيعية، الذكرى الخامسة لتلك الهبّة الجماهيرية على التوالي. بدل الصورة السريعة التي انطبعت وقتها، صورة تدحرج الأنظمة الواحد بعد الآخر، تأتي الذكرى الخامسة، في التوقيت الخاص بكل بلد معني بها، لتعمّق الانطباع بأن ما بدا انهياراً عارماً وكرتونياً لنظم الحكم، كان يخفي مراوغة عميقة، تخفي بدورها نظاماً تحتياً شرساً، سخر من الأيديولوجيتين الأكثر ذيوعاً في موسم «الربيع»، الأيديولوجيا الإسلاموية وتلك الليبرالية، وقوّض مسعى القوى الحاملة لرايتهما، لصالح غلبة الأيديولوجيا «الأمنوية» إن كان يمكن لهكذا تعبير أن يعني شيئاً، باستثناء «تهذيب» الوصف.
لكن المشكلة أن مشهدية التهاوي السريع للأنظمة صحبها تعليل ذلك بأن سرعة التهاوي دليل على الافتقاد المريع لأسباب الشرعية، مما فتح المجال لفرض معادلة جهنمية: التباطؤ في السقوط كدليل على استعادة الشرعية، إعادة شحنها، وفي هذا الإطار بالذات حضر النموذج السوري، وحضر كأمثولة خفية، تجري محاكاتها خلسة: نموذج يعتبر أن النظام الذي لا يقاوم انتفاضة شعبية بقمع دموي لها هو بلا شرعية، أما نظام مستعد للذهاب بعيداً في قمع الانتفاضة، وتشريد الشعب، وتدمير المجتمع، فهو نظام يحوّل احتضاره الى نظام مزمن، بل ويصير نظاماً يعظ الثوار كيف كان ينبغي أن تكون ثورتهم لتكون سديدة وتنجح!
كانت الثورة السورية اللحظة الأكثر جذرية في الربيع العربي، وكان قمع النظام لها نقطة انطلاق مجموع الديناميات التقويضية لهذا الربيع، هذا الربيع الذي برزت مبكراً أزمة الوعي والتنظيم والسياسة فيه، في معظم ساحات حضوره، وصولاً الى إشاعة مناخات من الخيبة.
كان شعار الديموقراطية غير كافٍ من الأساس يوم طُرح في هذه البلدان. كان شعاراً يغني عن معالجة التفاوت الاقتصادي ـ الاجتماعي هنا، والمظالم الاثنية والمذهبية هناك، فضلاً عن تفريغ الإسلاميين لمضمونه، بحيل بلاغية فضحتها التجربة.
لكن ما حدث مع الانعطافة نحو الخيبة هو أن هذا الشعار غير الكافي، الديموقراطية، تحوّل الى هدف مؤجل، أو مستبعد، هامشي أو خيالي، هذا إن لم يُستحضر من نقائضه.
هنا أيضاً، كان النظام السوري طليعياً في تسويق الهزء بالديموقراطية. بالتوازي مع آلة القتل، أخذ يوظف بشكل ماكر السؤال: هل هؤلاء الذين يواجهوني ديموقراطيون؟ واستفاد طبعاً من ارتفاع نسبة من يرى الديموقراطية شركاً في معشر من هو محسوب على الطرف المواجه له في الحرب الأهلية.
لكن الهزء بالديموقراطية لم يتوقف على هذا النظام. صار مسلكاً معمماً في بلدان عديدة، يغذي الخيبة وتغذيه.
في المقابل، باب الخروج من «ثقافة» الهزء بالديموقراطية، إدراك أنها لم تكن يوماً كافية بحد ذاتها، أو حلالة مشاكل، ليست كلمة سحرية تغني عن عدالة اجتماعية، أو عن إنهاء مظالم اثنية أو مذهبية، بل إنها كلما حضرت بشكل مجرد عن المضامين الاجتماعية والمكونات الأهلية كلما كان حضورها مفتعلاً، تنقلب الحماسة بصدده خيبة بشكل سريع، ولا يؤمن حضور كهذا لا ازدهار قيادات بديلة، ولا لغة سياسية جديدة، وهذا كان أيضاً الوجه المجدب للربيع العربي: بلدان شهدت انتفاضات شعبية، لم تنبثق منها قيادات كاريزمية استثنائية، ولا تعدلت بشكل بارز لغة السياسة، وبقيت نتف أيديولوجية مكررة تُستعاد، من دون ربط جدي مع المسارات الواقعة.