من قلب دمشق، قبل خمس سنوات بالتمام، انطلقت أولى الصيحات التي ستشق السماء، أولى الكلمات التي ستصدّع الصمت الثقيل، أولى الهتافات التي ستمزّق ستار الخوف الحديدي: «الشعب السوري ما بينذلّ«.
من سوق العصرونية وسوق الحميدية وحي الحريقة والسنانية وباب سريجة.. من هنا وهناك، ستبدأ تلك التظاهرات المرتجفة، القليلة العدد، لثلة من الشبان والصبايا الشجعان، مخترقين كالبرق شوارع دمشق، أسواقها القديمة، حاراتها الضيقة العريقة.
من كتابات سريعة، عبر «الفايسبوك«، وعبر همسات الهواتف ووشوشات الأصحاب، ستنطلق دعوات التجمع أمام السفارة المصرية، احتفالاً بسقوط حسني مبارك، وستتكرر المحاولة أمام السفارة الليبية. العالم العربي يغلي، وسقوط الطغاة يتوالى. فيض الصور التلفزيونية يلهب المخيلة ويشعل الحماسة. مشهد «ميدان التحرير« في القاهرة ينتصر على تاريخ اليأس. هكذا، انتقل الرعب من قلوب المواطنين إلى قلب النظام السوري، لأول مرة منذ أربعين عاماً. فجأة، ما كان يضم عشرات الناشطين المتهورين بات بالمئات، وانتشرت العدوى، وبدأت الصور الأولى تظهر. الصوت السوري والصورة السورية المستحيلة يصلان إلينا عبر الكاميرات الصغيرة. صور رديئة النوعية، مغبشة، مرتجفة، لا تظهر فيها الوجوه.. لكنها كانت كافية بروعتها وبقوتها الهادرة وبإعجازيتها.
كان اليوم المشهود والتأسيسي، في 15 آذار 2011، حين عمّت بشكل سحري، تلك الدعوة إلى التظاهر والاعتصام في أنحاء سوريا، تزامنًا مع حالة احتقان في مدينة درعا، إثر اعتقال عدد من الأطفال الذين كتبوا على جدران مدرستهم شعارات مناهضة للنظام.
في ذاك اليوم، خرجت تظاهرة ضمت العشرات من الجامع الأموي، مركز دمشق التاريخي، فبدأ القمع. استنفر النظام شبيحته، الذين سينقضون في اليوم التالي على تظاهرة أخرى أمام وزارة الداخلية، في ساحة المرجة، وسط العاصمة. وسيعلو الهتاف الجديد: «الله، سوريا، حرية وبس«.
كان ذلك، على مبعدة يومين فقط، من انفجار الثورة في درعا، لحظة الانبجاس الشامل لإرادة الشعب السوري. وما ابتدأ في دمشق يوم 15 آذار، بتردد، سيتحول بعد ثلاثة أيام إلى معجزة الانتفاضة الشاملة.
خمس سنوات مضت، وشعار النظام «الأسد أو نحرق البلد« ما زال مرفوعاً كآلة جهنمية ودموية، أتت على الشعب السوري بالويلات والفظائع والعذابات التي تفوق كل وصف. أنزل النظام الموت والدمار بالسكان وبالمدن والبلدات والقرى، ما تعجز عنه أشد الأنظمة وحشية. ولم يستسلم الناس ولا عادوا إلى الخنوع ولا لزموا الصمت.
بعد خمس سنوات، وبعد كل يوميات الحرب الأشبه بحملات الإبادة، عاد السوريون فقط إلى تظاهراتهم الأولى، إلى صرخة «الشعب يريد إسقاط النظام«. تلك العبارة التي كتبها أطفال درعا، لم تمحها الطائرات الروسية، ولا البراميل المتفجرة، ولا الأسلحة الكيمياوية، ولا الإعدامات الجماعية، ولا جحافل «الحرس الثوري« الإيراني، ولا عصابات «حزب الله« ولا حتى «تفاهمات« باراك أوباما..
من الألم السوري المديد، من هذا العناد العظيم، من رماد المأساة، ومن هذا الصبر التاريخي، سيتفتح ورد دمشق، وسيزهر ربيع بيروت.