«الملّاحات في خطر». بطاقة حمراء رفعت في وجه المشروع السياحي المقرر إنشاؤه في محيط دير سيدة الناطور الأثري في أنفة. ليس المنتجع أول الأخطار المحتملة التي تهدد وجود «الملاليح»، لكنه قد يقضي على قطاع إنتاج الملح الذي لا يزال العشرات يعتاشون منه. أصحاب المشروع وشريكتهم مطرانية الأرثوذكس، يرفعون شعار حماية الدير والملاحات، فيما الأهالي والنشطاء الأثريون والبيئيون يشككون
لم تكتمل فرحة الأنفاويين بقطف أولى طلائع موسم «زهرة الملح»، الجمعة الماضي، في ملاحات دير سيدة رأس الناطور في أنفة. في ذلك اليوم، توفي الياس حنا سليمان (96 عاماً) أقدم مشغلي تلك الملاحات. حتى الرمق الأخير، لم يتعب ابن بلدة دده الذي ورث صناعة الملح قبل أكثر من 65 عاماً وأورثها لعائلته. معه، خسر ملح أنفة أحد «أركان» صناعته، في وقت تسهم عوامل عدة في دفع هذا القطاع نحو الانقراض.
أسوأ من خسارة سليمان تزامنها مع «القطوع» الذي تواجهه «الملاليح» بإحياء مشروع «إنماء ناطور» المجمّد منذ 20 عاماً، والذي تأسست لأجله شركة حملت الاسم نفسه لتطوير واجهة أنفة السياحية. حينها، وقّعت أبرشية طرابلس والكورة وتوابعهما للروم الأرثوذكس عقد استثمار طويل الأجل مع عدد من المستثمرين، يقضي بإنشاء منتجع سياحي على أراضي الوقف التابعة للدير، والتي تضم عشرات الملاحات (معظمها كان قيد التشغيل آنذاك).
تجربة المنتجعين السياحيين المجاورين للدير لا تبشر بالخير لجهة التزام التعهدات (تصوير: علي حشيشو)
أخيراً، أنجز أصحاب المشروع الدراسات اللازمة والمخطط الهندسي. منتصف الشهر الماضي، وبموجب المرسوم الرقم 58 عام 2009، تقدموا بطلب الى المجلس الأعلى للتنظيم المدني للسماح لهم بالاستثمار في الأملاك العامة البحرية وإشغال مساحة بحرية وردم جزء من شاطئ أنفة لإنشاء ميناءين سياحيين تابعين للمشروع. رفض المجلس الطلب وأحاله إلى مجلس الوزراء صاحب الصلاحية في بتّه بحسب المرسوم نفسه. أما مخطط المشروع على اليابسة فلم يعرض، لا على المجلس الأعلى ولا على مجلس الوزراء لبحثه.
استباقاً لقرار الحكومة ومواجهة للشائعات التي تتحدث عن تمرير المشروع في إطار المحاصصة الطائفية المعتادة، انطلقت حملة محلية ودولية لمواجهة «إنماء ناطور». أمس، وزّع ناشطون تحت اسم «المجلس العالمي اللبناني» عريضة حملت شعار «أنقذ رأس الناطور أنفة ــــ موقع طبيعي وتاريخي ــــ تراث عالمي»، تدعو الى التحرك في وجه «ما يتعرض له رأس الناطور من مشروع مدمر للبيئة والتراث والقيم والجمال في المنطقة التي لا تزال عذراء». بحسب العريضة، فإن السياسيين ورجال الأعمال «يرغبون في دفن (رأس الناطور) تحت مجمع خاص من الأحجار الرخامية بمساحة سطحية تبلغ مليون متر مربع، منها 30 ألف متر مربع سيتم الحصول عليها بفضل عمليات بناء السدود وصبّ الخرسانة في قاع البحر، لبناء ميناء لرسو اليخوت لأصحاب المجمع».
«المشروع ــــ الضمانة»
بعد الهجوم الذي تعرض له المشروع، أصدرت الأبرشية (مالكة الأرض والشريكة فيه) بياناً قالت فيه إنه «بهدف تثبيت أبنائنا في أرضهم وبتدبير إلهي، جمعنا نخبة من أبناء طائفتنا وتوافقنا معهم على تأسيس شركة مهمتها القيام باستثمارات عمرانية في العقارات التي يملكها دير سيدة الناطور عبارة عن مشروع سكني سياحي وقرية بيئية تتكامل عقارياً وبشرياً وتحافظ على حركة الدير». وأكدت الأبرشية أن المشروع من شأنه «أن يولد في مرحلة إعداده وتنفيذه وإداراته آلاف فرص العمل لأبناء الشمال، وينشط دورة الحياة الاقتصادية والحركة السياحية في المنطقة من خلال إبراز معالمها التراثية، وفي مقدمتها الكنائس الأثرية وحرفة صناعة الملح التي قضى الإهمال عليها».هيئة تراث أنفة: المشروع جزء من حرب طويلة مارستها الدولة على الملاحات وأصحابها
المدير العام للمشروع المهندس إبراهيم فياض أكد لـ«الأخبار» أن المشروع «سيشكل ضمانة لوجود الملاحات وحمايتها من الانقراض، فضلاً عن أنه سيشجع السياحة الدينية إلى دير سيدة الناطور وسائر كنائس أنفة الأثرية». كيف ذلك؟
عام 1998، وُقّع عقد أوليّ لاستثمار أراضي وقف الدير البالغة 780 الف متر مربع بين فريق الأبرشية وعدد من رجال الأعمال تجمعوا في إطار شركة «إنماء ناطور». الإجراءات الإدارية والميدانية استلزمت وقتاً طويلاً، لا سيما إخلاء الملاحات التي كان يشغلها عدد من أهالي أنفة والجوار بإذن من الأبرشية. بين 2000 و2005، أُخلي حوالى 60 ملاحة، عقب مفاوضات قادتها الأبرشية لقاء تعويضات مالية دفعتها الشركة. حالياً، لم يبق سوى ست ملاحات قيد التشغيل، منها ما يقع ضمن وقف الدير ومنها ما يقع ضمن الملك العام. بعد ذلك، انصرف أصحاب المشروع لاختيار تصميمه. لكن اغتيال الرئيس رفيق الحريري ثم اندلاع أحداث طرابلس والشمال تسبّبا في تأخير المشروع وانسحاب معظم الشركاء. حالياً، يشكل جاك صراف المستثمر الأول، وتتولى شركته «مجموعة ماليا هولدينغ» التنفيذ.
يؤكد أصحاب المشروع أنهم سيحافظون على المميزات الطبيعية فيما يشتمل المخطط على تفاصيل تغير معالم المنطقة (تصوير: علي حشيشو)
يكشف فياض أن المشروع ينقسم إلى مراحل عدة ستنفذ تباعاً؛ الأولى ستنفذ في المربع الواقع جنوب الدير على مساحة نحو مئة ألف متر. بين الصخور الناتئة وفوق أنقاض الملاحات المهجورة والريحان والصعتر والبلوط والبلان والأزهار البرية، ستشيّد وحدات سكنية صغيرة من طبقتين فوق الأرض أو طبقة سفلية وثانية أرضية، لا يزيد ارتفاع كل منها على 9 أمتار. يؤكد أن أصحاب المشروع سيحافظون على مميزات المكان الطبيعية: «الواجهة الصخرية لن تمس، ولن يتم تدمير أيّ من الصخور في الموقع. لذلك، أُبعد موقع ميناء الصيادين السياحي عن الصخور وتحدد فوق أنقاض قاعدة عسكرية مهجورة شيّدت في الحرب الأهلية (موقع الميناء الثاني لم يحدد بعد)». أما الملاحات الواقعة في جزء من المربع، فيؤكد فياض أن حمايتها وتطويرها يدخلان ضمن أهداف المشروع، كاشفاً عن طلب قدم إلى بلدية أنفة في شباط الفائت لترميم الملاحات التابعة لوقف الدير. إلى جانب الترميم، يتعهد المشروع بدعم مشغلي الملاحات الواقعة ضمن الملك العام البحري المحاذي لموقع المشروع وتركيب دواليب هواء تشغل الملاحات وتزوّد المشروع بالطاقة.
يشتمل المخطط على تفاصيل كثيرة تغير معالم المنطقة. الطريق الدولية الساحلية التي تربط أنفة بالقلمون وطرابلس ستطالها مرحلة التنفيذ الأولى. تُضم الطريق الحالية (بحسب الخرائط هي من ضمن أراض الدير) إلى حرم المنتجع وتستحدث بدلاً منها طريقا دائرية تمر في القسم العلوي من أراضي الوقف، وتنتهي بمستديرة تقود إما إلى طرابلس أو إلى الدير أو إلى المنتجع. يجزم فياض بأن مدخل الدير سيبقى على حاله ومستقلاً عن المنتجع. إلا أن الأشغال ستطال حرمه الممتد على مساحة 100 الف متر مربع: «سنقوم بتأهيل المدخل والحديقة المحيطة الممتدة على مساحة 50 الف متر وتأهيل الملاحات التابعة للدير الواقعة إلى شماله بمساحة 50 ألف متر».تسأل الراهبة كاترين الجمل: كيف سيكون الحال؟ قداديس هنا ومايوهات ورقص هناك؟
يرثي أهالي أنفة الحيّز العام الواقع تحت أراضي الدير حيث تقع ملاحات إضافية ويُقصد الشاطئ للسباحة. وهم واثقون بأن المشروع، على غرار سائر المنتجعات السياحية، سيسيّج بسور ويقطع الطريق إلى الشاطئ. «أضمن بأن يبقى المشروع مساحة مفتوحة للعموم وإبقاء الممر الإلزامي لامتداد الشاطئ اللبناني مفتوحاً كما ينص القانون» يؤكد فياض.
في القسم العلوي من الوقف، لا تزال سكة القطار على حالها. علاها الصدأ، لكن هيكلها الحديدي والبراغي واللوحة المثبتة عند محطة أنفة، لم تتأثر بمرور الزمن. فهل تتأثر بـ«إنماء ناطور»؟ يقدم فياض تعهداً جديداً. «جميع العناصر التي تضفي طابعاً تراثياً وجمالياً على المنتجع، ستبقى في مكانها من ضمنها سكة الحديد».
الموقع المنوي إقامة المشروع فوقه
ربما يجد مخطط المشروع حماسة لدى البعض، لكن الخشية من تنفيذه على الطريقة اللبنانية. تجربة المنتجعين السياحيين المجاورين للدير لا تبشر بالخير. منتجعا لاس ساليناس ومارينا شيّدا على أنقاض الملاحات. حينها قال أصحابهما إنهما سيلتزمان بالقوانين والأعراف. ما النتيجة؟ شيّدوا طبقات عدة ولم يلتزموا بعدم الارتفاع لأكثر من تسعة أمتار. استبدلوا توظيف أبناء البلدة وجوارها بتوظيف العمالة الأجنبية. أنشأوا ميناءين سياحيين لليخوت والزوارق وخنقا بينهما ميناء الصيادين. هنا، يؤكّد فياض أن «الكنيسة عنصر ضامن للكل، لناحية التوظيف والالتزام بالضوابط البيئية في الإنشاءات وإدارة المنتجع».
الأخت الحزينة: هل نفتح «منتجعاً دينياً»!؟
(تصوير: علي حشيشو)
تتكوّم الراهبة كاترين الجمل في زاوية عند مدخل دير رأس الناطور. ليس اتشاحها بالسواد من رأسها حتى قدميها ما يشير إلى حزنها فحسب. تبدو السيدة الستينية ثكلى ترثي المكان الذي تقيم فيه وحدها منذ 45 عاماً. ما إن تسمع عن المشروع حتى تثور غاضبة. «خبّروا إن الراهبة ضد المشروع وتشكو الله كل من وقّع عليه وتصلي لئلا ينجز». تستغرب ما تسمعه عن جذب السياح إلى الدير: «يصبح منتجعاً دينياً؟»، تتساءل. «كيف سيكون الحال. قداديس هنا ومايوهات ورقص هناك؟. السياح الدينيون يأتون على اليخوت؟». تشكك في أن أحد أهداف المشروع تطوير الدير. تذكّر بأنها رمّمت الدير الذي كان مهجوراً، من التبرعات وبعملها كخياطة فصلت أثواباً لرجال الدين لقاء أموال أنفقتها على تأهيل الدير ورسم أيقونات داخل الكنيسة. «كثر خيري، ظبطت الدير من دون أن آخذ ليرة واحدة من المطرانية». تأسف ناطورة الدير لأنها لم تستشر قبل توقيع عقد الاستثمار. تصرّ على موقفها الرافض وتحريضها الأهالي والملاحين على الوقوف ضد المشروع. «ولو قالوا لي غادري الدير، فسأغادر مش فارقة معي».
تشكّك الجمل في كل التعهدات التي يقدمها أصحاب المشروع. أما المستشار الثقافي في هيئة تراث أنفة وجوارها المهندس جورج ساسين، فيربط تنفيذ التعهدات برقابة الدولة. لكنه يستبعد ألا يتسبب المشروع في أضرار بيئية: «ماذا عن الزيوت التي قد تتسرّب من اليخوت والزوارق في الميناء المرتقب؟ ماذا عن التنوع البيولوجي في النباتات والحيوانات التي تسكن في موقع المشروع في البر والبر؟ ماذا عن آثار الردم وصبّ الخراسانات في المياه، على الأسماك والأعشاب البحرية؟». أما بالنسبة إلى الملاحات، فيلفت ساسين الى أن المشروع جزء من حرب طويلة مارستها الدولة على الملاحات وأصحابها، من رفع الرسوم الجمركية عن استيراد الملح المصري إلى توقف وزير المالية عن إصدار تراخيص لتشغيل الملاحات الواقعة ضمن الملك العام.
الحريشة محمية
بالنظر إلى النصوص، يصبح الالتزام بالقوانين ضامناً لحماية الملاحات. المخطط التوجيهي العام لأنفة والحريشة (وقف دير سيدة الناطور) الصادر عام 2016 ، ينص على أن «تبقى العقارات التي تحتوي على ملاحات خاضعة للمناطق الارتفاقية التي تقع فيها من حيث نظام البناء وما عداه من الشروط الخاصة سوى في ما يعود للمؤسسات المسموحة ضمن كل منطقة على حدة. وعند طلب رخصة أو استثمار لملاحة يعرض الطلب على المجلس الاعلى للتنظيم المدني للموافقة المسبقة ويعرض على وزارة البيئة. وفي حال وجود ملاحة تعمل في عقار ما يخضع العقار للموافقة المسبقة من قبل وزارة البيئة والمديرية العامة للآثار لتحديد واقع الملاحات ومدى أهميتها ووضع الشروط الملائمة للمحافظة عليها أو إعادة تأهيلها».