يظن رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو أن المصيبة القومية التي لحقت بكل من العراق ثم سوريا وكيف أن الجيشيْن المعوَّل عليهما واللذيْن كان الإنفاق السخي طوال أربعة عقود من جانب حكومات العهود المتعاقبة عليهما يأخذ من حساب التنمية، باتا يقومان بـ «واجبات» مبغوضة كل جيش لمصلحة نظام صودرت منه إرادة إتخاذ القرار.. يظن هذا الـ نتنياهو أن الرقميْن الصعبيْن في موضوع الصراع العربي – الإسرائيلي باتا شبه محذوفيْن وأن الكيان الصهيوني حصل على النصف الثاني من الطمأنينة بعد حصوله على النصف الأول المتمثل بإلتزام كل من مصر والأردن بمعاهدات سلام ثابت شكلاً منقوص موضوعياً، بمعنى أن المعاهدات فرضتْها الظروف المعيشية والإقتصادية وليست القناعات الوطنية والإلتزام بالواجب القومي.
هذا ما يظنه نتنياهو، ثم يكتمل عنصر الإثم في ظنه عندما يعتقد أن الإنشغال الطارئ من جانب المملكة العربية السعودية وبعض الدول الحليفة المؤازرة لها المقتنعة بالخطوة الإضطرارية التي إتخذتْها إزاء الموضوع اليمني، سيجعلها تطوي ملف الواجب الفلسطيني ومواصلة نجدة الغزَّاويين، وبالأهمية نفسها واجب التمسك بـ «مبادرة السلام العربية» التي لولاها لما كانت حدثت بعض الإستدارات الدولية لمصلحة أن تكون هنالك دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، وبعد أن يتم إنسحاب إسرائيل إلى حدود الرابع من حزيران 1967 وهو إنسحاب منصوص عليه، قبل المبادرة، بقرار مجلس الأمن 242 الصادر يوم 22 تشرين الثاني 1967 بإجماع أعضاء المجلس وتصفيق منهم لم يسبق له مثيل مما يعني أن دول العالم وبالذات الدول الخمس الكبرى تريد تسوية للصراع العربي – الإسرائيلي وأن إنسحاب إسرائيل إلى حدود 4 حزيران 1967 ليس فقط المهم في القرار وإنما أيضاً تلك الفقرة (ب) من البند الثاني التي تنص على «تحقيق تسوية عادلة لمشكلة اللاجئين» مما يوجب على إسرائيل إلى جانب تنفيذ القرار الصادر بالإجماع الدولي، تنفيذ قرار أممي تمّ إصداره وبالإجماع عام 1948 وينص على حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم أو تعويض من لا يرغب في العودة.
الذي يستوقفنا هنا أن نتنياهو وفي ضوء المصيبة السورية – العراقية ومعها المصيبة الليبية وأم المصائب في الأمتين، الظاهرة الداعشية، وجد أن الفرصة مناسبة له لكي يلتف على الأجواء الدولية وأبرزها إنفتاح الفاتيكان على الموضوع الفلسطيني ولمصلحة صيغة الدولتيْن والإصرار الأميركي، وإن كان خجولاً بعض الشيء، على صيغة الحل من خلال الدولتيْن، ورفْع فرنسا مستوى السعي لتنشيط التفاوض الذي يحقق الحل بقيام دول فلسطينية، وإتجاه الإتحاد الأوروبي إلى فرْض عقوبات على إسرائيل في حال لا تستأنف التفاوض المتوازي. أما كيف يكون الإلتفاف فعلى النحو الذي أبلغه الثعلب نتنياهو (يوم الثلاثاء 26 أيار2015) لوزيرة خارجية الإتحاد الأوروبي فيدريكا موغريني حول إستعداده للتفاوض.. إنما على حدود الكتل الإستيطانية التي تخطط إسرائيل لتكون مادة للتفاوض مع الجانب الفلسطيني، وهي من أجل ذلك إعتمدت التسويف وتعطيل المفاوضات على رغم سعي وزير الخارجية الأميركي جون كيري وإكثاره من الجولات والتصريحات والتبريرات والمسايرات، لكي يتم إنجازها والخروج بنتيجة حل يحقق الإستقرار النسبي في الشرق الأوسط.
وهذه المراوغة من جانب نتنياهو ظاهرها الإستعداد للقبول بمبدأ التفاوض على صيغة الحل بالدولتين، لكن الخفي من الإقتراح متصل بالنوايا الماكرة. وهذا بدا جلياً عندما أطلق بعد ثلاثة أيام تصريحاً جاء فيه «إن مبادرة السلام العربية لم تعد تتلاءم والتطورات في المنطقة…». وهو أطلق هذا التصريح بعدما حصل على تطمين من وزيرة خارجية الإتحاد الأوروبي من أن دول الإتحاد ستؤجل البحث في وضْع عقوبات على المستوطنات الإسرائيلية، وهو تطمين يستحقه في حال إلتزم بما يريده المجتمع الدولي من إسرائيل، أي تسهيل إنجاز صيغة الحل بدولتيْن. لكن على ما يبدو إن نتنياهو، الذي هو أحياناً ذئب يعتدي كما حصل في غزة وأحياناً ثعلب كما يتعامل مع السعي الدولي ومبادرة السلام العربية، يراهن على أن المزيد من الخراب سيحدث في العالم العربي وأنه بعد هذا الخراب ينفض اليد من أي وعود أو عهود. وحتى إذا كان لا يعلن ذلك بالصوت العالي فإنه بكلامه عن المبادرة العربية يريد القول ما معناه إن الدولة الأكثر قوة وشأناً وتماسكاً، أي المملكة العربية السعودية، مشغولة الآن وربما لمدة طويلة بالأزمة اليمنية، وأن إنشغالها سياسي وعسكري في الوقت نفسه. وتحت وطأة هذا الإنشغال لن تكون مبادرة السلام العربية في أولويات إهتماماتها.
وهنا يتناسى نتنياهو أن هذه المبادرة ليست مجرّد إقتراح على طاولة مشاورات وإنما هي حلقة متقدمة من جملة حلقات في أساس الرؤية السعودية للموضوع الفلسطيني منذ الملك المؤسس عبد العزيز طيَّب الله ثراه وإستمراراً في عهود أبنائه الستة، مع التوقف عند نقطة جديرة بالإهتمام وهي أن المبادرة إرث وطني قومي تركه الملك عبد الله رحمة الله عليه في عهدة أخيه الملك سلمان وعلى نحو المشروع الذي طرحه على القمة العربية الثانية عشرة في «فاس» 1981 الملك فهد رحمة الله عليه في عهدة أخيه الملك عبد الله، وعليه بنى الملك عبد الله أفكاره في شأن تسوية الصراع وباتت بعد الموافقة عليها بالإجماع في القمة الدورية الثانية (بيروت 28 آذار 2002) تُعرف بـ «مبادرة السلام العربية».
كما لا يأخذ نتنياهو في الحسبان النقطة البالغة الأهمية من ناحية الواجب الديني الذي لا يخضع لمساومة، وبالذات بعدما بدأت صفة «خادم الحرميْن الشريفيْن» تتقدّم على كلمة الملك وهو مبدأ أكثر منه لقب بدأه الملك فهد وإعتمده الملك عبد الله وهو مستمر مع خادم الحرميْن الشريفيْن الملك سلمان بن عبد العزيز وسيبقى مرادفاً مستقبلاً. وهذه الصفة تلقي على حاملها مسؤولية دينية وتاريخية تتمثَّل بتحرير المسجد الأقصى من ربقة الإحتلال، ومن أجل ذلك طرح الملك فهد مشروعه وطوَّر الملك عبد الله المشروع من خلال المبادرة وكلاهما في عهدة الملك سلمان الذي ندعو له بطول العمر وبأن يتقدّم المصلين ذات يوم ليس بالبعيد في المسجد الأقصى وقد تحرَّر. وعندها تتأكد الحقيقة الموضوعية وهي أن «مبادرة السلام العربية» التي مهَّد لها مشروع الملك فهد وبلورهْا بهدف الإجماع العربي في الدرجة الأولى عليها الملك عبد الله، كانت طريق الإستقرار إلى المنطقة، ولو أن المجتمع الدولي مارس عند إعلانها الصدق والنزاهة وقلة المداهنة لإسرائيل لما كانت المصائب التي تعيشها الأمتان، من المصيبة السورية إلى المصيبة العراقية إلى المصيبة الليبية إلى أم المصائب «داعش» وأخوانها… إلى، وهذا بالأهمية نفسها، إنقسام الصف الفلسطيني فالعناد والمزايدة الإيرانية، إنتعشت على نحو ما نراه منذ عشر سنين ووضعت المنطقة على مشارف الهاوية.