حصل ما كان مستحيلاً قبل فترة ليست ببعيدة، واقتربت ساعة الحسم الرئاسي مع أنّ المنطق يقول إنّه يجب إنتظار جلسة 31 تشرين الأوّل. كلّ العناصر تتجمّع لإتمام الإستحقاق الرئاسي، والجميع ينتظر ساعة الفرج.
بصرف النظر عن إسم المرشح الذي سيملأ فراغ كرسيّ بعبدا، فإنّ أولى إيجابيات هذا الحدث تتمثل في عودة الرئيس المسيحي الوحيد في لبنان والشرق الى لعب دوره، بعد درب جلجلة طويل عاشها مسيحيّو الشرق في فترة الفراغ الرئاسي وكانوا يصرخون من وجعهم مستنجدين وسائلين: أين أنتم يا موارنة ويا مسيحيّي لبنان؟ أين هو رئيس الجمهورية القادر على الإتصال بالدول الكبرى لنجدتنا أو أقلّه لإسماع صوتنا لأنّ الحروب أكبر من كلّ الأطراف المحلّية والإقليمية؟
سنوات من النزاعات المسلّحة عاشتها المنطقة، خصوصاً سوريا والعراق، تهجّر خلالها الكلدان والآشوريون والسريان وبقية المذاهب المسيحيّة، إضافة الى تدمير مدن وبلدات بأكملها وتهجير أهلها مسيحيين ومسلمين على حدٍّ سواء.
ومع تقدّم القوّات العراقية مدعومة من التحالف الدولي نحو قرقوش أكبر بلدة مسيحيّة قرب الموصل، وفيما يحتفل مسيحيّو تلك البلدة والجوار بطرد «داعش»، يستعدّ مسيحيّو لبنان للإحتفال بإنتخاب رئيس الجمهورية إن صدقت التوقعات، وعودة الدولة اللبنانية الى تركيبتها الدستورية المتوازنة.
مسارٌ طويل طبع تلك المرحلة، بدءاً بمطالبة المسيحيين للمرة الأولى منذ إتفاق «الطائف» بإنتخاب الرئيس القوّي، مروراً باعتبار بكركي أنّ الزعماء الموارنة الأربعة الذين اجتمعوا في الصرح البطريركي، أي رئيس تكتل «التغيير والإصلاح» العماد ميشال عون، رئيس حزب «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع، الرئيس أمين الجميّل، ورئيس تيار «المردة» النائب سليمان فرنجية، هم مرشّحون طبيعيّون بحكم تمثيلهم، وصولاً الى الترشيحات المتتالية للأقطاب الأربعة.
مدٌّ وجزر ساد العلاقة بين سيّد الصرح و»فخامة الرئيس» بعد انتخاب أوّل رئيس جمهورية، فالبطريرك إستطاع جمعَ السلطة الدينية والسياسيّة تحت عباءته، وبطبيعة الحال، فإنّ الإنسان الماروني معروف بعناده وأنّه «لا يردّ على أحد»، فكيف الحال إذا كان رئيساً للجمهورية؟ من هنا وُلد التصادم في مراحل، والتلاقي في مراحل أخرى بين البطريرك والرئيس.
كانت لبكركي كلمتها في الإستحقاقات الرئاسية، لكن في المرحلة الماضية تدخّلت مباشرة نظراً إلى ضعف المسيحيين ومحاربة قياداتهم السياسية. عام 1988، ومع بروز شبح الفراغ، أعطى البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير لائحةً بأسماء 10 مرشحين للرئاسة، وأتى الموفد الأميركي ريتشارد ميرفي وقال جملته الشهيرة «يا مخايل الضاهر يا الفوضى».
كرّر صفير تجربته في خريف 2007، وقدّم لائحة بستة أسماء إلى وزير الخارجية الفرنسية آنذاك بيرنار كوشنير، وفي التجربتين، لم يُنتخب رئيس من لائحة بكركي بسبب الظروف الداخلية والإقليمية والدولية غير المؤاتية.
أما التجربة المبطّنة، فكانت عندما بارَك البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي تسمية الأقطاب المسيحيين الأربعة. جميع السياسيين تنبّؤوا لا بل كانوا متأكدين أنّ أحداً من هؤلاء الزعماء لن يُنتخب بفعل تمركزهم في محاور إقليمية متحاربة وأنّ الجميع اعتاد فكرة الرئيس الذي لا لون له.
تعرّضت تجربةُ بكركي الأخيرة لإنتقادات عدّة لكنّها بقيت في إطار الهمس لأنّ القوى السياسية، خصوصاً الإسلامية منها، كانت تظنّ أنها لن توصل الى مكان. في المقابل، كرّست مباركة بكركي معطىً جديداً على الأرض لم يعد بالإمكان تخطيه على رغم أنّ الراعي كان مع إنتخاب رئيس للجمهورية في الفترة الأخيرة أيّاً كان اسمه، لكي لا يستمرّ الفراغ.
تتسارع التطورات الرئاسيّة، ولم يعد بإمكان المشكّكين في دور بكركي أن يبقوا كذلك، خصوصاً بعد توحّد الغالبية المسيحية. والدليل الأهم أنّ الراعي هو مَن نسف «السلّة» بعدما تجرّأ على مهاجمتها بطريقة غير مسبوقة وشدّ عصب المسيحيين، وتحوّل رفضه معطىً سياسياً على الأرض بعدما أيّد خطواته جعجع وعون، في حين أنّ أحداً من القوى السياسيّة، حتى المتخاصمة مع الرئيس نبيه برّي، لم تستطع مواجهته لو لم يفتح البطريرك الطريق لها.
إذا استمرّت الأمور بهذا الشكل، وانتُخب عون رئيساً، عندها تكون بكركي قد نجحت في إيصال مرشّح من لائحتها على رغم أنّ الأمر تأخّر نحو سنتين ونصف السنة، وساعدت على إنضاج التسوية عوامل عدّة، لكنّ الأكيد أنّ المسيحيين عادوا الى الشراكة من بوابتها العريضة ولم يعد بإمكان أحد تخطّيهم… إذا توحّدوا.