العام 1970 كان لبنان يختم عقده الذهبي: حكومة برئاسة صائب سلام، من أساتذة الجامعات، المصارف تفيض، الصحف في أعلى ازدهارها الفعلي، الحركة الفنية تزهو، والأمن عام. بعد خمس سنوات بدأ شيء سُمّيَ الحرب، وهو في الحقيقة أسوأ بكثير: إطاحة الهيكل الذي كان يتّجه ببطء إلى أن يُصبح دولة حقيقية وموطناً طبيعياً. قوى كثيرة رأت في سقوط لبنان حصة صغيرة لها: إسرائيل تُزيل نموذج التعدّد من الشرق، والغرب ينقل إليه المصارف وأموال النفط، والفلسطينيون يعْتَلون منصّة الصراع التي استحالت عليهم في الأردن، وسوريا تحجِّم، أو تقزِّم، هذا المنشقّ الذي لا يكفّ عن الغناء مثل صرار لافونتين عن “الكمّ أرزة العاجقين الكون”.
بصرف النظر عن تعدّد الغايات وتناقض القوى، خطَت حرب لبنان اتجاهات معاكسة تماماً لمسيرة التقدّم والتطوّر القائمة حول العالم. ففي البرتغال كانت تبدأ صيف 1974 “ثورة القرنفل” التي أنهت نصف قرن من عتم أنطونيو سالازار. وفي خريف 1975 غاب فرانكو وحضر الازدهار والحرية. وانتشرت العدوى إلى الأرجنتين العام 1983، والى البرازيل 1985. والعام 1989 سقط في تشيلي نظام أوغوستو بينوشيه، القاتل المرضي. دخلت الديموقراطية بيوتاً عنكبوتية مجنزرة: كوريا الجنوبية، الفيليبين، تايوان، وبلاد مانديلا. ومن اليمين اتجهت يساراً نحو الاتحاد السوفياتي والصين. وبعدما كان عدد الأنظمة القمعية مثيراً للرعب أصبح عدد الأنظمة المدنية مثيراً للدهشة.
العام 2011، بداية “الربيع العربي”، كان هناك 117 نظاماً برلمانياً من 193 دولة مقابل 69 من أصل 167 العام 1989. ما الذي أدّى إلى هذا التحوّل؟ كالعادة، هناك عناصر متعدّدة ومختلفة ومتفاوتة، لكن السبب الأساسي كان في رأي صامويل هانتنغتون فشل الأنظمة التوتاليتارية في كل ما دعَت إليه ووعَدَت به. انفجار الفقاعات.
حاوِل إذاً أن تقلِّب مجسَّم الكرة الأرضية أمامك فترى أن الانتقال من الديكتاتورية إلى دول القانون شمل جميع القارات والأقاليم والمناطق، إلا الشرق. ثمة مناعة مُحكمة ضد النظام التمثيلي في ما عدا المرحلة الاستعمارية. يأخذ الزميل فؤاد مطر في كتابه عن رؤساء لبنان، على الانتداب الفرنسي، أنه كان يعيّن الرؤساء من غير ان يأخذ في الاعتبار إرادة المواطنين. وإذ يعدّد الزميل أسماء “الاستعماريين”، يفوته أنهم كانوا جميعاً من أعلى الطبقات القانونية والعلمية، وأنهم من أنزه مَن عرفت الجمهورية، وأنهم جميعاً ماتوا فقراء، لا وريثاً ولا ادّعاء ولا مطلباً ولا من يتبرّع بجنّاز سنوي.
إطاحة لبنان كفكرة قابلة للحياة والاقتداء، كانت مقدمة لتحصين الشرق ضد التحوّل إلى متّحد إنتاجي كالمتحد الأوروبي. وإذ ينتقل العالم من الثورة الصناعية إلى الثورة التكنولوجية والطبيّة والماليّة، ترتفع معدّلات الفقر والمرض والأميَّة في سائر العالم العربي، ويقتل الرجل زوجته ضرباً أمام أمها وأولادها.
يجب النظر دوماً إلى التدمير الذي لحق بلبنان كفكرة متحضّرة كانت تبحث عن صيرورتها، وليس عن التوحّشات التي تعرَّض لها المشروع. لم يدُم مشروع واحد مهما اتسع. لا اليونان ولا روما ولا الإمبراطورية العربية ولا سواها. ولكن يبقى من هذه النجاحات جوهرها ومعانيها الحضارية. ولو لم تُقتحم فكرة لبنان كمتّحد رحِب لمجموعة ثقافات، لربما لم يستكمل الشرق عملية الانحدار الرهيب نحو الجحيم والعدم. هنا بدأت الحرب على فكرة الوحدة بين مكوّنات الأمة الحضارية وأصولها وجذورها ومكانها تحت الشمس.
لم يؤدِّ خيار النظام التمثيلي إلى إنسان أكثر حرية فحسب، بل إلى إنسان أقلّ عبودية. كوريا الجنوبية وتشيلي أصبحتا من أكثر الدول يُسراً وكفاية. أندونيسيا خرَجت من ثِقل أحمد سوهارتو، الشخصي والوطني والتهريجي، لتتقدّم “نمور آسيا”. في المقابل خرَجت ليبيا من لفّات قماش القذافي وتفتّت وتفكّك المشرق الذي لم يعرف منذ الاستقلال سوى تجارب حسني الزعيم. وعندما بُحث عن عدو تُباد باسمه فكرة لبنان، عُثر فوراً على “الميثاق الوطني” الذي رُفعت من حوله المتاريس وحُفرت الخنادق. وتمّ تحويل لبنان من نموذج للألفة إلى نمط للتخريب العبثي الذي يفضي من انحلال إلى انحلال، ويستبدل حكومة أساتذة الجامعات بحكومات ما سمّاه الراحل الكبير عمر كرامي، “ليس في الإمكان أحسن مما كان”. أي إلا ما يُسمح به.
شارَكَت في تدمير لبنان المدني أربع قوى رئيسية كانت تدَّعي العلمانية: بعث العراق، والبعث السوري، والجماهيرية الليبية. وساهم في ذلك أيضاً ياسر عرفات، مع أنه رفع من بيروت شعار قيام الدولة المثلّثة في فلسطين، مسلمين ومسيحيين ويهوداً.
بدأ تدمير الدولة غير الدينية من لبنان. محلّ النقاش القانوني والعلمي والمدني والاجتماعي والسياسي، الذي كانت توفّره بيروت، بدأ ظهور الإلغائيات والازدرائيات السياسية والدينية معاً. بدأت أوسلو بدخول ياسر عرفات غزة، وانتهت بتحوّلها قاعدة مطلقة لحماس. احتكار “الفكر الثوري” أدّى إلى انفجار النزعات الدينية والعرقية والقومية، ورأينا الدولة تنهار لتحلّ محلّها القبائل والمناطق والمذاهب. ما بدأ حرباً طائفية مُقنّعة في لبنان، تحوّل حروباً مذهبية فاقعة، ومناطق لها أسماء مُوحية بهوياتها الدينية لا الوطنية، ولا القومية، ولا الحضارية، ولا المستقبلية. وبعدما كان كل شيء منضوياً تحت مظلّة الصراع العربي – الإسرائيلي، أصبح كل شيء (سنّياً وشيعياً)، وبينهما زوال الأثر المسيحي القائم منذ ألفيّ عام.
لقيام الأمم سُبُل لا تخطئ، ولانهيارها دروب لا تَخدع. للوهلة الأولى يبدو من المغالاة القول إن كل شيء بدأ في لبنان، أو نوعاً من التشفّي الصغير، لكن بعد بيروت سقطت ساراييفو. وفيما أدّى تيّار التخلّف والفساد واللامبالاة إلى التفسّخ كما في السودان، أدّى الارتقاء إلى النظام التمثيلي إلى احتواء نزعات العنف الانفصالي في أوروبا، وامتصَّت الوحدة الكبرى الحركات الصغيرة في إسبانيا وبلجيكا، فيما دمَّر التخلّف الشعوب والتواريخ والاقتصادات والمصائر في هذا الجانب من العالم، وهذا الجانب الخطأ من التاريخ.
حاول فؤاد شهاب إنقاذ اللقمة من منقاد غُراب البَين قبل تحطّمها: عدالة اجتماعية وفساد أقل. شيء شبيه بحركة الناصري يوم رأى جميع مَن حوله ضحية الفرِّيسيين والعشّارين وبهرَجات الكتَبَة ووضاعة تجار الهيكل. لم تكن ثورة دينية، بل أخلاقية وإنسانية. مجتمع مقهور وضعفاء تستغلهم الشياطين وتعذّبهم، وشعب واقع بين جُند روما ومخابرات هيرود وأسعار يوضاس.
أدرك أنه لن يستطيع مقاومة العشارين والقيصر معاً: “اعطوا ما لقيصر لقيصر”. لا عنف، ولا خطاب قاس، قال لتلامذته. احتفلت الهند الشهر الماضي بمائة عام على عودة غاندي من جنوب إفريقيا. وفي جنوب إفريقيا سوف يُهزم مانديلا الرجل الأبيض على طريقة غاندي: روما وبريطانيا وأوروبا البيضاء، هزمها ثلاثة رجال لا يملكون رداءً كاملاً. والأول عاش ثلثي حياته بلا منزل ووُلد في مغارة.
العنف الذي يلفّ المنطقة فيه مزيد من الموت وليس فيه خلاص. مثل البصلة التي كلما كشفت منها طبقة زادت حدّتها ودموعك. إطاحة النموذج اللبناني فتحت باب الانهيار في الشرق حيث عُدنا إلى غرائز ما قبل الدولة التي أقامها الانتداب. كرد وآشوريون وسريان وإيزيديون وفُرس وتُرك وقناصل. تتألّف ليبيا من 1,8 مليون كيلومتر مربع من النفط والساحل والزيتون، ولا تتّسع لأهلها. وبلاد ما بين النهرين تتذابح منذ عشرين قرناً، وثمّة من ينخر في عِظام مصر لكي تُصبح سيناء هي الوطن البديل.
تبدأ المسألة بفتح كوّة، ثم نافذة، ثم كل شيء سِيب وخراب. كنا بلداً بلا سيادة وصرنا أمة بلا سيادة. دول ترفع رايات أسيادها وأوطان ترفع رايات سواها. وما من رئيس هنا، حيث بدأ كل شيء. مساكين الذين لا يعرفون الفارق بين المسخرة والمأساة.