يستعدّ النظام السوري وحلفاؤه لصيف حار، حيث تستمرّ التحضيرات لمعارك ملتهبة بهدف استكمال تطويق مدينة حلب تمهيداً لجعلها في حكم الساقطة عسكرياً، إضافة إلى مواقع أخرى في الشمال السوري، وخصوصاً في اللاذقية.
لن تقتصر هذه المعارك على المنطقة الشمالية دون سواها، بل إنّ التحضيرات العسكرية تشمل مناطق قريبة من دمشق وفي طليعتها مخيم اليرموك الذي أصبح مقراً خطراً لـ«داعش».
الجديد الوحيد في الخبر هو التوقيت الذي يشير إلى الأشهر المقبلة، أما الأهداف فهي ليست بجديدة وكانت شكلت أحد ابرز مستوجبات الدخول العسكري الرسمي في سوريا.
يومها تحدثت موسكو عن عمليات عسكرية لن تتجاوز الخمسة أشهر في اعتبار أنّ هذه المدة ستكون كافية لإنجاز المهمة بما فيها تطويق حلب تمهيداً لخنق المجموعات المعارضة.
الدفع العسكري الهائل الذي أحدثته القوات الروسية أعيد تفعيله مرة جديدة استدراكاً لدروس الميدان، وتصويباً للخطط ما أدّى إلى وثبة جديدة منذ مطلع السنة الحالية. لكن في كلتا الحالتَين بقيت حلب هدفاً بعيد المنال.
ولا حاجة للتذكير بأنّ طهران توافق قراءة الرئيس السوري بشار الأسد بأنّ استعادة حلب ستعني عملياً إنجاز الانتصار الأكبر في الحرب، وبالتالي فرض واقع جديد على طاولة المفاوضات، والأهم ضمان الانتخابات الرئاسية مستقبلاً نظراً الى حجم السكان داخل المدينة والقوة الاقتصادية التي لطالما امتازت بها عائلات حلب السنّية.
صحيح أنّ المساعدة الروسية ساعدت في تمكين الجيش السوري مدعوماً من حلفائه من تحقيق تقدم كبير في ريف حلب، لكنّ التطويق الكامل للعاصمة الاقتصادية لسوريا بقي غير مكتمل. وصحيح أنّ القيادة العسكرية الروسية لم تعلن مرة واحدة أنها لا تريد حلب، لكن في الوقت نفسه بقي تركيزها الكبير بعيداً عن حلب.
وعندما تمسّكت القيادة السورية ومعها «حزب الله» بالذهاب إلى حلب تمسّكت روسيا بأولوية تَدمُر نظراً لرمزيتها ووقعها الكبير على العواصم الغربية وتسليط الضوء الإعلامي على هذا الإنجاز نظراً الى أهميتها الأثرية، ما سيساهم في رسم صورة جيدة للنظام في المحافل الدولية ويساعد على تلميع صورته على أبواب مفاوضات صعبة وشاقة.
وافقت القيادتَان العسكريّتَان السورية والإيرانية على رغم عدم إقتناعهما بالجدوى العسكرية لتدمر المدينة الموجودة في الصحراء، فيما المكاسب القابلة للتحقيق في حلب لا تحصى ولا تعد.
وبخلاف ما جرى تداوله في الإعلام، فإنّ القوات الروسية شاركت للمرة الأولى من خلال وحدة النخبة في اقتحام شوارع تدمر وقد سقط لوحدة النخبة الروسية أحد عناصرها لم تعلن القيادة الروسية عن ظروف مقتله وذلك في إطار التعتيم على دور وحدات النخبة.
وبعد تدمر عادت دمشق لتطرح حلب مجدداً في وقت بدأ يتّضح فيه الهدف الروسي الفعلي من انتزاع تدمر بدل التوجّه مباشرةً إلى حلب واختصار الوقت الثمين.
ففي الكواليس ما بين واشنطن وموسكو أصبح واضحاً للجميع التفاهم الأميركي ـ الروسي حول النقاط الأساسية في سوري،ا والأهم الصورة المستقبلية انطلاقاً من الحفاظ على مصالح البلدين.
ولا مجال للتشكيك أبداً في أنّ المصلحة الحيوية لروسيا هي في الحفاظ على حصة وازنة للنظام، في التركيبة الجديدة ما يضمن الخريطة السورية مستقبلاً.
لكنّ واشنطن اتفقت أيضاً مع موسكو على إنجاز أساس التسوية في سوريا قبل رحيل الرئيس باراك أوباما عن البيت الأبيض. كما أنّ واشنطن تنظر الى الخريطة السورية ـ العراقية على أساس أنها ساحة واحدة.
في العراق تحرّكات أميركية متصاعدة تحضيراً لاقتحام المناطق التي تسيطر عليها «داعش» وتشكل ساحة واحدة مع الرقة ودير الزور في سوريا. وهنا بدا الهدف الروسي من تدمر أوضح. ذلك أنّ موسكو تريد الانطلاق من تدمر شرقاً في اتجاه الصحراء لقطع التواصل ما بين الرقة ودير الزور وملاقاة القوات الأميركية والجيش العراقي الآتي من العراق.
هذا سيعني تكريساً ميدانياً لوقف الحرب. فالقضاء على معاقل «داعش» يعني ضمناً أنّ الأهداف الدولية المطلوبة تحققت. لكنّ طهران المتطابقة في موقفها مع دمشق أعادت فتح الخريطة العسكرية مجدّداً مع موسكو من خلال مشاورات مفتوحة وأصرّت على هدف حلب.
وقيل إنّ موسكو أبدت موافقتها على ذلك، ما جعلها تعمد إلى إعادة نشر مدفعيّتها بما يتلاءم والوضع الهجومي في حلب، وباشرت إجراءات ميدانية أخرى في هذا المجال. وانطلاقاً من هذا الواقع تتحدث دمشق عن لهيب واسع سيطبع الأشهر القليلة المقبلة.
ضربة عسكرية واسعة، تعديل نهائي في موازين القوى ومن ثمّ العودة إلى طاولة التفاوض وفرض تصوّر جديد يحمي مصالح الجميع ويحاكي خطة ضرب «داعش» ولو أدّى ذلك إلى دخول واشنطن في توقيت الإدارة المقبلة.
لكنّ ثمّة اشارات أخرى لا يمكن إغفالها هي مبهمة في بعض جوانبها ولكنها معبّرة جداً. فللمرة الأولى منذ اندلاع الحرب في سوريا يظهر سلاح نوعي لطالما تشدّدت واشنطن في منع وصوله إلى سوريا خشية وقوعه في يد المجموعات المتطرّفة والإرهابية.
صواريخ أرض ـ جو مكّنت عناصر «جبهة النصرة» من إسقاط طائرة حربية في حلب، والأخطر صواريخ من النوع نفسه مكنت عناصر «داعش» من إسقاط طائرة حربية أخرى قرب دمشق.
بالإضافة الى إرسال مزيد من القوات الأميركية التي تضمّ خبراء رفيعي المستوى وأفراداً من القوات الخاصة، والمعروف أنّ اوباما بنى سياسته في الشرق الأوسط على سحب قواته وعدم التورط في القتال.
كما أنّ هنالك سعياً واضحاً لتركيا للتوغل داخل سوريا بحجة المشاركة في القتال ضدّ «داعش». صحيح أنّ موسكو رفضت بحزم أيّ تدخل تركي في منبج ما دفع أنقرة الى العدول عن خطوتها، لكنّ معلومات يتناقلها ديبلوماسيون حول إعلان وفد عسكري أميركي كان قد زار تركيا أخيراً، موافقة واشنطن على منع أيّ دور للأكراد في منبج والاتكال فقط على قوات عربية وأخرى تركمانية، وذلك لمنع الأكراد من وصل مناطقهم بين كوباني وعفرين، لكي لا يعزل الأكراد تركيا عن شمال سوريا.
وواشنطن تدرك جيداً الوضع التركي الداخلي الدقيق، لا بل الخطير في بعض جوانبه. وهذا سيعني وقوف الأكراد جانباً، وهم الذين يشكلون قوة أساسية تتكئ عليها موسكو، إضافة لوقوع مناطق في ريف حلب تحت سيطرتهم.
ولا بد من الإشارة إلى الاشتباكات التي حصلت بين الأكراد والجيش النظامي السوري. صحيح أنّ لهذه الاشتباكات أسباباً مباشرة لها علاقة بحساسية الأرض لكنها بالتأكيد تعكس خلفيات سياسية.
فمصلحة الأكراد في نهاية الأمر المحافظة على حضورهم الميداني للمحافظة على نفوذهم السياسي. ما يعني عدم استبدال الفصائل المعارضة للنظام من خارج المجموعات المتطرفة في الجيش النظامي السوري.
وهنالك ملاحظات إضافية تعبّر عن التعقيدات التي تختزنها خريطة حلب. لذلك ربما تعتقد أوساط ديبلوماسية أميركية أن لا حلّ سوى بالجلوس حول طاولة المفاوضات عاجلاً وليس آجلاً. واشنطن تعتقد أنّ التعب بدأ يظهر على جميع الأطراف ما يجعل الظروف مثالية لإنجاز تسوية سياسية صعبة.
وتضيف هذه الأوساط أنّ الرئيس الأميركي وبعد عودته من زيارته للسعودية اعطى التطمينات الكافية لدول الخليج بعد أسابيع من الاستهداف السياسي، وأنّ ذلك سيفتح الباب أكثر في سوريا.
وحسب الأوساط نفسها، فإنّ إيران لا بدّ أنها تتوجس من الفريق القادم إلى البيت الأبيض، وإنّ السعودية لا بدّ أنها أيقنت بأنّ التشدد المنتظر للسياسة الأميركية مع وصول إدارة أميركية جديدة، إنما سيشملها أيضاً إن لم يكن سيبدأ بها.
لكنّ الأهم بالنسبة الى لبنان، أنّ اللهيب في حال كان هو سيد الموقف خلال الاسابيع المقبلة، فإنه لا بدّ من التيقظ لأنه سيطاول الاستقرار الأمني في لبنان، بما معناه، أنّ الجبهات ستتحرّك بقوة، خصوصاً في عرسال، وستحاول العناصر المنتمية إلى «داعش» التوغل في لبنان، وتحديداً في اتجاه عكار في طريق إنسحابها من سوريا.
وفي موازاة ذلك، لا بدّ من إيقاظ الخلايا النائمة بهدف تخفيف الضغط عن سوريا وعن عرسال وإرباك الساحة الداخلية لـ»حزب الله». لقد تحرّكت المخيمات أخيراً، وبات مخيم المية ومية بلا قيادة حازمة بعد اغتيال المسؤول الفلسطيني فتحي زيدان، وتبدو الساحة كمَن يحضرها لعمل قريب. في اختصار لهيب سوريا في حال حصوله سيطاول لبنان مجدداً، وهو ما بات المسؤولون الأمنيون الكبار في أجوائه.