رغم كل تداعيات دوّامة التأزم والاهتراء التي يتخبّط فيها لبنان منذ سنوات، ما زال بالإمكان التقاط ومضات من التعقل والحكمة، التي ما زالت تلجم البلد من الوصول إلى مرحلة الانفجار، وما قد يعقبها من الانهيارات المتتالية، التي قد تقضي على ما تبقى من مقومات وطن وشعب ودولة!
صحيح أن بُنيان الدولة أصيب بعطب كبير بسبب الشغور المُعيب في رئاسة الجمهورية…
وصحيح أن المؤسسات الدستورية، بعضها مُعطّل، وفي مقدمها مجلس النواب، والبعض الآخر شبه معطّل، وبلا إنتاجية تذكر، مثل مجلس الوزراء…
وصحيح أن سرطان الفساد ينخر الإدارات والمؤسسات العامة، وأن حالة من الفوضى والتسيّب تسود دواوين الدولة، بمستوى غير مسبوق في تاريخ دولة الاستقلال…
صحيح… وصحيح… وصحيح… يمكن أن نعدّد مئة مَثل ومَثل للدلالة على المستوى المتدني الذي وصلت إليه أوضاع البلاد، والتي تتردى فيها أحوال العباد!
ولكن في المقابل، وبعيداً عن أساليب جَلد الذات، وروايات فش الخلق المنتشرة هذه الأيام على مواقع التواصل الاجتماعي، ثمة مؤشرات إيجابية، تحتاج إلى مزيد من العناية والاهتمام، لتتحوّل إلى عوامل مؤثرة ونافعة في عمليات التصدّي لمخاطر الانهيار الشامل.
ونكتفي بالتوقف أمام بعض تلك المؤشرات، على سبيل المثال لا الحصر!
أولاً: نجاح الجيش والأجهزة الأمنية الأخرى، من مخابرات وأمن عام وقوى أمن وشعبة المعلومات في درء الخطر الإرهابي عن البلد إلى حدّ كبير، بحيث استطاعوا كشف عشرات الخلايا السرية، وإحباط العديد من عمليات التفجير، فضلاً عن منع عناصر داعش والنصرة المتواجدة في جبال القلمون، وجرود القرى الحدودية من التسلل إلى الداخل اللبناني، والتصدّي لتحركاتها بقوة نارية مركزة، ألحقت الكثير من الخسائر في مواقع التنظيمات المتطرفة، وعناصرها البشرية.
ولعل العمليات الإرهابية المتنقلة في المدن الأوروبية الكبرى، وآخرها عملية ميونيخ، تجعلنا أكثر إدراكاً، بل أكثر فخراً، بقدرات الأجهزة الأمنية اللبنانية، التي يعمل رجالها باللحم الحيّ في التصدّي للبؤر الإرهابية، بسبب قلة الإمكانيات المادية والتقنية، وهذا التفاوت الكبير بين تجهيزات الأجهزة الأمنية الأوروبية، وما يتوفر منها لرجال الأمن اللبنانيين.
ثانياً: الحفاظ على وضع أمني مقبول، رغم هشاشته، وذلك قياساً على البراكين المتفجرة في أكثر من بلد حولنا، وفي الإقليم.
ويمكن القول أنه رغم حالة الانقسام العامودي، ورغم تعقيدات الخلافات السياسية والحزبية، وامتداداتها الخارجية، بل ورغم حالة الاستفزاز التي يشكلها امتلاك حزب لبناني ترسانة سلاح وميليشيا منظمة، وما يشكلانه من ضغوط مستمرة على الحركة السياسية، فثمة قناعة تصل إلى حد الإصرار، عند الفرقاء السياسيين الآخرين، وخاصة تيّار المستقبل، بأن يبقى الصراع الداخلي في إطار الخلاف السياسي، والعمل على عدم إيصاله إلى الشارع، وتحويله إلى صدامات مسلحة، تجرّ إلى حروب فتنوية لا يخرج أحد منها منتصراً! وعبر سنوات الحروب العبثية، في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، ما زالت ماثلة في أذهان القيادات الحالية.
ولعل في هذه النقطة بالذات، تبرز أهمية استمرار الحوار الثنائي بين تيّار المستقبل و«حزب الله»، بغض النظر عن قلة «النتائج الباهرة» التي حققها!
ثالثاً: احتدام الصراعات السياسية، وارتفاع حدة الخطابات الحزبية، بين فترة وأخرى، لم يصل إلى حدّ إلغاء الآخر، أو على الأقل، عدم الاعتراف بوجود الآخر.
هذا الاحتمال كان بمثابة الشرارة التي فجّرت الحروب الحالية في أكثر من بلد عربي، من سوريا والعراق، إلى اليمن وليبيا، إلى جانب النهج الحالي في مصر وتركيا بعد الانقلاب.
ما زالت الأطراف السياسية متمسكة بالاعتراف المتبادل بحق الاختلاف، وبنهج التعددية الحزبية والثقافية في إطار وحدة العيش المشترك، التي تحوّلت إلى صيغة جعلت من لبنان «رسالة» ومثالاً للتعايش بين الأديان والإتنيات المختلفة.
وتأتي العملية الانتخابية، سواء على مستوى البلدية أو لاحقاً النيابية، بمثابة تعبير ديمقراطي حضاري لهذا التنوّع السياسي والتعدد الحزبي والعقائدي، والذي يعتبره البعض بمثابة «وصفة سياسية» لإطفاء الحروب المشتعلة في الإقليم.
* * *
يمكن الاسترسال أكثر في البحث عن الومضات المضيئة في هذه العتمة المظلمة التي تلف المنطقة، وتصل بعض امتداداتها إلينا، بدءاً من الاستقرار النقدي، وصمود القطاع المصرفي، وصولاً إلى استمرار الجامعات في تخريج الآلاف من شباب الكفاءة والاختصاص، والذين أصبحت تحويلاتهم من الخارج تشكّل عنصراً مهماً من عناصر التوازن في الدخل الوطني.
ولكن يبقى الأهم من كل ذلك، إحداث الصدمة المطلوبة للطبقة السياسية الحالية، لإجراء الإصلاح المنشود انطلاقاً من قانون الانتخابات العتيد، والعمل على وضع مصالح البلد فوق كل اعتبار، خاصة الاعتبارات الحزبية والفئوية والشخصية الضيّقة، واستعادة الثقة بالبلد ومستقبل أبنائه، قبل فوات الأوان!