يعيد موقف رئيس الحكومة تمام سلام في حديثه الأخير لـ «السفير» عن الموقف من «التحالف الإسلامي ضد الإرهاب» بعضاً من سيرة رئيس الحكومة الراحل صائب سلام في أواخر سنوات خمسينيات القرن الماضي، عندما رمى القرنفلة من على صدره ونزل إلى الشارع يقود التظاهرات لمنع وقوع لبنان في شرك الأحلاف التي كانت تغزو المنطقة، حتى أنه استبدل لون الوردة الحمراء بوسام من دماء سالت على صدره.
لا يطالب اللبنانيون اليوم سلام الإبن أن يحذوَ حذو أبيه، فالأيام تغيرت وفي بلدهم الكثيرون الكثيرون الذين رموا القرنفلة ليستبدلوها بنقطة الدم الحمراء، فكل ما في الأمر أن يكون الموقف وفق المفاهيم الدستورية، ويحترم خصوصيات البلد التي من الخطأ النظر إليها بالمفرق كما يبرر رئيس الحكومة تمام سلام موقفه المفاجئ من «التحالف» بقوله: «أتحمل مسؤوليته استناداً إلى موقعي وخصوصيتي».
نبدأ من الآخِر بالسؤال عن «خصوصية» الرئيس تلك؟ ألا يمكن أن تمتد إلى أن تلامس الموقف من بعض الطروحات التي يحكي عنها كبار المعلقين السياسيين حول ما هو آتٍ للمنطقة العربية؟ نشك في قول مثل هؤلاء المشككين، وإثبات ذلك لا يمكن إلا بكلمة فصل من دولة الرئيس لتحديد مثل تلك «الخصوصية»!
أما في الجانب القانوني، فيظهر جلياً أن رئيس الحكومة قد اتخذ موقفاً رسمياً، أو «شبه رسمي»، من التحالف الذي لم يكن مجرد فكرة تُطرح للاستمزاج، ويتبين ذلك من تسمية الدول المنخرطة في إطاره وعددها 34 دولة، منها لبنان. فإذا كان لبنان غير منخرط يصبح من واجب السلطة اللبنانية المعنية أن توضح ذلك، وإذا ما فعلت فلا يمكن لأحد في العالم أن يتهم لبنان بمساندة الإرهاب لا بل إنه يقاومه كما لم يقاومه بلدٌ آخر، إن كانوا متحالفين أم غير متحالفين. ويتأكد وجود صيغة الاتفاق بنسختها النهائية من قول الرئيس سلام إنه «لا يوجد في إطار التحالف الإسلامي ما يلزم لبنان بأي مشاركة عسكرية، إنما نستطيع أن نقدم الخبرات الأمنية».
ويقول الرئيس سلام «لا أحد يستطيع ان يقيدني ويمنعني من اتخاذ الموقف الذي أراه مناسباً…». صحيح، فاللبنانيون عشاق الحرية، وأنت منهم، ولكن هذا التأكيد لا يسري إلا على حقك الشخصي، أي الذي تتخذه باسمك ويكون عليك توضيح ذلك بإشهار الفصل بين رأيك الخاص وبين ممارسة المسؤوليات المنوطة برئيس الحكومة، كي لا يؤدي ذلك إلى خرق للدستور.
فوفق المعطيات المشار إليها سابقاً والصمت عن نفي انضمام لبنان إلى «التحالف الإسلامي ضد الإرهاب» بنسخته الحالية يكون الخرق الدستوري واضحاً، وتجاوز حد السلطة موجوداً. فمثل هذا التحالف في ما صدر من توضيحات ومؤشرات حوله يندرج في مفهوم المادة 52 ـ دستور التي جاء فيها «يتولى رئيس الجمهورية المفاوضة في عقد المعاهدات الدولية وإبرامها بالاتفاق مع رئيس الحكومة، ولا تصبح مبرمة إلا بعد موافقة مجلس الوزراء…».
وقبل أن يتعدل هذا النص في 21/9/1990 كان كالتالي: «يتولى رئيس الجمهورية المفاوضة في عقد المعاهدات الدولية وإبرامها…»، أي أنه لم يكن من دور لرئيس الحكومة في عملية الإبرام، فلماذا أصبح رئيس الحكومة شريكاً في الإبرام؟
قد يعتقد البعض أن ذلك يعود إلى فصل السلطات وصلاحيات مجلس الوزراء ورئيسه. ولكن بمجرد أن يكون رئيس الجمهورية شريكاً أم طرفاً في الإبرام أم لا، فهو بذلك يتمتع بصلاحية استثنائية إن لمبدأ الفصل وإن لصلاحيات مجلس الوزراء ورئيسه. وبتجاوز الأسباب العديدة التي فرضت هذا التعديل، فإن الثابت من النص النافذ الإجراء أن المشترع رأى ضرورة أن لا ينفرد طرف واحد في عقد المعاهدات والأحلاف وغيرها، فمثل هذا الاستئثار يؤدي حكماً لعواقب جسيمة، وتجربة 1958 واتفاق القاهرة وغيرهما يؤكدان ذلك.
بهذا المعنى، يصبح اتخاذ الموقف من «التحالف الإسلامي»، أو أي تحالف آخر، مهما تبدلت الأسماء، مستحيلاً دستورياً إذا لم تكن عملية الإبرام الأولي قد تمت بموافقة رئيسي الجمهورية والحكومة أولاً. وإذا كان لبنان قد عانى من تجاوز ذلك في الماضي القريب فإنه اليوم بغنى عن ذلك لأن خزانة مقتنياته لم تعد تستوعب ما يزيد. ولا يمكن هنا القول بذريعة أن لا رئيس للجمهورية عندنا، لأن الدستور ملأ السدة بالوكالة وعمدت الحكومة السلامية إلى ممارسة وكالتها مرات عديدة، مما يجعل ذريعة الخلو باطلة.
انطلاقاً من المعطيات السابقة والكثير غيرها، يمكن القول إن أي اتفاق خارجي مهما كان اسمه محكوم بالمادة 52 ليكسب دستوريته، ووفق المؤشرات والمعطيات التي لم ينفها أحد من أصحاب العلاقة فإن «التحالف الإسلامي» يندرج في هذا الإطار، مما يلزم رئيس الحكومة تمام صائب سلام، إذا ما أراد تأييد التحالف شخصياً، أن يوضح ذلك بصراحة، وإذا كان قد اتخذ ذلك بحكم موقعه فيبقى عليه أن يعرض الاتفاق على مجلس الوزراء للموافقة عليه بالشروط السابقة التي مارس فيها مجلس الوزراء وكالته عن رئيس الجمهورية، ويوضح بصراحة ما هي «خصوصيته» التي أشار إليها ليقول ما قال والموقف الذي أعلنه.
نقول هذا لأن اللبنانيين، ونحن منهم، لا نستهين بإرث ذلك البيت العريق إنه جزء من تاريخنا وتاريخ عاصمتنا تحديداً، فحرام على أي كان أن ينزع «القرنفلة» من أمامنا ليستبدلها بقطرات الدم.. ولكن في هذه المرة بأيدينا.